نعم أيتها المدينة
لقد قررت أسفاً أن أغادرك بلا عودة
جئت إلى أحضانك
طالبة الحب والرعاية وترف العيش
ما كنت أعلم أنكِ ستسبين قلبي
وستلقين به في جحيم مستعر
قلبي ليس منافقا
كما ادعوا
أنا ما اقترفت ذنبا فادحا
حتى أجازى بهذه القسوة
كل ما في الأمر
أني التقيته صدفة
كان أول يد تمتد لمساعدتي
ومساندتي
لتحميني من ذئابك المترصدة
بقطع اللحم الطازج ..
قبل أسبوع
من قدومي إليكِ
يتصل بي عمي ليقول
أنه قد حضّر لي مفاجأة
ستصلني عبر البريد الالكتروني
فراقبي بشغف
كنت قد أنهيت دراستي الجامعة مؤخراً
وها أنا أبحث عن فرصة لإثبات الذات
ما هي إلا ساعات قليلة
تصفحت بريدي للمرة الألف
لأجد ما كنت أحلم به
عمل في إحدى الشركات التجارية الكبرى
في مدينة الترف
انه هدية عمي بمناسبة تخرجي
طرت فرحاً
ها قد افتر فوه القدر
عن ابتسامة الحظ الجميلة
التي ستغير تعابير حياتي الرتيبة
حزمت أمتعتي
وجهزت نفسي للسفر
كنت أهمّ بالرحيل على متن الرحلة 8
المتجهة إلى مدينة الترف
وبينما أنا أقطع الحاجز
متجهة نحو الطائرة
كان عمي يتصل بوالدي
ليقول له أنه لا يستطيع القدوم إلى المطار
لاصطحابي وأنه سيرسل موظفاً
وسائق من الشركة
في هذه الأثناء
كنت قد تواريت خلف الحواجز
ولم تصلني رسالة عمي
وما هي إلا ساعات قليلة جداً
كانت قد هبطت طائرتي على أرض المطار
أنهيت كل الإجراءات سريعاً
وخرجت
ابحث عن وجه عمي بين الوجوه
سئمت من البحث والانتظار
جلست مطرقة أنتظر
لعله تأخر لأمر طارئ
وطال انتظاري
كنت أهمّ بالتوجه نحو بيت عمي
كما هو في العنوان المدون معي
إنها المرة الأولى التي سأزوره فيها
ركبت سيارة أجرة
يقودها سائق أسيوي
خاطبته بالإنجليزية
لعلمي أنه لا يفقه العربية كثيراً
أعطيته الورقة المدون فيها العنوان
وطلبت منه أن يقلني إليه
بعد قليل تتوقف السيارة
ليقول لي السائق
أن هذا هو العنوان
نزلت من السيارة
وغادر قبل أن أقرع الجرس
سألت حارس المنزل عن صحة العنوان
ويال الصدمة
لقد كان عنواناً خاطئاً
وكان علّي أن أقطع ثلاث جادات سيراً
لأصل إلى العنوان الصحيح
كنت متجهمة تائهة مرهقة
عندما وجدته يقف أمامي
هو : هل أستطيع مساعدتك ؟؟
أنا " باستغراب " : نعم ؟؟؟ أتريد مساعدتي ؟؟
هو : نعم ..أراكِ مرهقة ويخال لي أنك تائهة ...
أنا : نعم فأنا لست من هذه المدينة الكبيرة
وأخذت أروي له قصتي مع سائق السيارة ....
حمل عني حقيبتي التي أرهقتني
ما كنت أعلم أنها ستكون عبئاً
علي عندما حزمتها قبل مغادرتي بيتي
أوصلني إلى بيت عمي سالمة
وقفت لأشكره على كرمه وشهامته
فابتسم
طلبت منه رقم هاتفه
رغبة في أن يقدم له عمي الشكر
سجله لي وغادر
عندما عاد عمي تحدث معه
ودعاه لتناول العشاء معنا
بعدها بدأت علاقة من صداقة
تجمعه بالعائلة
استلمت عملي الجديد
وبدأت أظهر تفوقي
وابهر مديري بقدراتي ومهارتي العالية
كنت كلما قررت أن أجوب المدينة
أجده كملاكي الحارس
ما كان يحدثني البتة
لكنه
يتبعني من مكان إلى أخر
مرت الأيام
وأخذت أعتاد وجوده
لا بل أني أفتقده إن غاب
في إحدى الأيام
كنت متجهة للتسوق
وبينما أنا في إحدى المحال التجارية
إذ بأحد الشبان يحاول التحرش بي
أخذ يلقي وابلا من كلامه البذيء
تحاشيته وما ألتفت نحوه
حتى تجاوزته
لأسمع خلفي أصوات عراك
التفت لأجده قد أخذ يتقاتل
مع ذاك الشاب المتغطرس الوقح
وقفت مشدوهة أمام هذا المشهد المريع
أخذت أفكر
ما الذي يجبر شابا مثله
على الذود عن فتاة مثلي لا يعرفها؟؟؟
وأخذ يستولي على كل تفكيري
كنت لا أنفك أفكر فيه أثناء عملي ..
استراحتي ...
نومي ...
مرت أشهر على هذا الحال
حتى جاء فصل الشتاء ...
كنت يومها عائدة من عملي كالعادة
أشعر بالاختناق
كان يغالبني الشوق حينها لوالديّ
ما شعرت بنفسي
إلا وأنا أدخل المتنزه
الطقس بارد جداً
لكني كنت أغالب الشوق فيني
لا أحد هناك إلا آي
وغربة تجتث شعوري بالحياة
صمت مديد استولى على المكان
كأنه صمت القبور
عبراتي انهمرت كسيل عارم من مقلتي
انتحبت على نفسي
وعلى غربتي
فأنا في مدينة لا أعرف فيها إلا القليل
وما هي إلا هنيهات
حتى شعرت بوجود أحدهم قربي
بنظرة مائعة
ببحر من الدموع التفت نحوه
انه ملاكي الحارس
أخرج منديلاً من جيبه
ومسح لي دمع تناثر على وجنتي
ولم تنبس شفته عن كلمة واحدة
كان يراقب انفعالاتي
وأمام هذا الكم الهائل من الحنان
ما كان مني إلا أن أجهش بالبكاء
وبعد أن هدأ روعي
كفكفت دموعي وشكرته
لروعة ملكت فؤاده
نظر إلي وقال :
العفو لكني ما فعلت شيئا
استحق عليه الشكر والثناء
وهل يشكر إنسان على حب ملك قلبه
أصابتني كلماته بصدمة كبيرة
حب؟؟؟!!!
ما كنت أعلم أن ما استولى على شعوره هو
الحب
قال لي:" لا تستعجبي من أمري ...
فمنذ أول مرة رأيتك فيها
علمت أنك من ملكت فؤادي ...
فسخّرت نفسي لك ...
فكنت حارسك
,
,
,
أحبك ...
بقيت واجمة مصدومة
أمام كلماته ومصارحته لي
بحب استولى على جوارحه
بعدها ابتسمت له
كانت أمنيتي أن يحبني
وأن يصدق شعوري
لمرة واحدة في هذه الحياة
وهنا بدأت قصة حبنا
لكنه حب صامت هكذا كان اتفاقنا
فلا لقاءات مخطط لها
ولا هدايا
ولا كلمات عشق
حتى أعود مدينتي
لنتوج هذا الحب بالرباط المقدس
واستمر حبنا أيتها المدينة
حباً أبكم
حتى جازيتني يا مدينة الترف
بصفعة حطمت كياني
كان يعمل مهندساً معمارياً
في شركة كبيرة
لمقاولات البناء
وفي احد أيام الصيف اللاهبة
طُلب منه الخروج للإشراف
على مشروع ضخم
تعهدت الشركة بإتمامه
الشمس في كبد السماء
والحرارة مرتفعة جداً
وقد حذرت الأرصاد الجوية
من موجة الحر التي تداهم المدينة
وما هي إلا بضع ساعات
حتى يردني اتصال غريب
امتعضت نفسي
وانقبض صدري
رفعت الهاتف
لأتلقى المكالمة
كان أحد زملائه يبلغني يا مدينة الترف
أن حبي يلفظ أنفاسه الأخيرة في المستشفى
وأنه يطلب رؤيتي كطلب أخير
فقدت عقلي
أسرعت عل غير هدى
لأرى من استولى على كل
خلية من خلايا عقلي
وعلى كل نبضة من قلبي
تجاوزت الحشود التي تجمهرت أمام غرفته
دخلت هناك لأجده مسجى على سرير أبيض
مكفهر الوجه عابس القسمات مرهق
أقبلت عليه أمسكت بيده
لا أكاد أصدق أنه على هذه الهيئة
وأخذت أنتحب وأبكي
وأدعو ربي أن يأخذ بيده
وبشافيه لي
فبدونه يا مدينة الترف
لا معنى ولا طعم مستساغ للحياة
نظر في عيني وقال بصوت خافت :
أحببتك بكل جوارحي
وكنت آمل أن تنتهي قصتنا برباط الزواج
لكن الأقدار تعاندنا يا حبيبتي
ولعل في الجنة لنا لقاء
حبيبتي
قبل أن يسلبني ملك الموت روحي
فأسدل الستار عن حياتي
سأقول لك ما أحببت أحداً سواكِ
وحبك كان قدري
ولقد رضيت وتهللت فرحاً
بهذا القدر الجميل
وما كنت أدري أني سأكون سبب معاناتك
حبيبتي
إن واروني تحت التراب
فاروي ثرى لحدي بدموعك
لتزهر روحي وروداً وأقحوانات ....
كان مع كل كلمة يتفوه بها
أشعر بخنجر يمزق مهجتي
وضعت أطراف أصابعي على شفتيه
كي يصمت ولا يجهد نفسه
استجمعت كلماتي المشتتة
وأخذت أتكلم :
أحببتك بكل جارحة من جوارحي
آه لو خسرتك يا حبيبي
كيف سأعيش ؟؟؟
كيف ستشرق شمس الحياة
على مساحاتي المترامية من جديد؟؟؟
كيف لي أن أحيا بدونك؟؟؟
أحبك لا بل أني أتنفس هواك
وأبصر الحياة بنظرة عينيك
وابتسم ابتسامة الأمل
والتفاؤل لبسمة شفتيك
كيف لك أن تتركني وحيدة
في مدينة الترف
وترحل
ألم تعاهدني
أن لا يفرق بيننا شيء على الإطلاق
ووسط معمعة الكلمات المقيدة بالرجاء
أخذت ارتجافة شديدة
تهز جسده المتهالك
ليلفظ أنفاسه الأخيرة
كان أخر جملة تلفظ بها
لا تحبي أحداً كحبك لي
وبدأت الحياة حينها تتلون بالسواد
رحل حبي ورحلت معه كل رغبة لي بالحياة
وبدأت قصة الوجع والمعاناة واليأس
ها قد مر على رحيله يا مدينة الترف
حولاً كاملاً
أبكيه كل يوم
وأنتحب عليه نحيب الثكلى
مدينة الترف
ما أهديتني الفرح لسويعات
ولا لونتِ حياتي بألوان الطيف يوماً
ها قد حزمت حقيبتي الثقيلة
وقررت الرحيل عنكِ للأبد
لكن لا أوصيكِ فرفاة حبيبي
مواراة بين حناياك
تكفلي برعايتها
ولا تنسي
ليعشوشب قبره كل ربيع
ولتزهر فوق لحده الزهور
كوني رحيمة عليه
احتويه بحنانك
ضمي عظامه برفق
مدينة الترف
سأبتعد وروحي معلقة في زواياكِ
تستجدي حبيباً واريته تحت التراب
ورويت لحده بدمع المقل
سأرحل وأجتر وجعاً سيلازمني طوال حياتي
فما بقي لي في هذه المدينة البكماء
من حبيب ولا صديق ولا قريب
كلهم ماتوا بموت حبيبي
حملت حقيبتي
وعلى متن طائرة الأوبة رجعت إلى وطني
لكني
ما رجعت كالتي غادرتها قبل سنتين
رجعت بحزن يخنق عبراتي
ويلوث لي كياني
وبغربة تجتث آمالي
وتقيدني بقيد من حديد