السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
من أجمل ما قرأت عن القصص التي تحكي عن حكمة القضاة في زمن كان فيه العدل و الورع
صفة من يحكم بين المؤمنين و يدير شؤونهم... أتمنى أن تروقكم هذه القصة التي أرويها لكن
بأسلوبي الخاص...
...ما زالت المدينة بعيدة، و العطار المتنقل يمتطي صهوة حصانه كالمعتاد... الشمس اعتلت
وسط السماء و حصانه بدأ يبطأ في الحركة من التعب... يسير متمايلا من ثقل حمولته... هو
أيضا يشعر بالجوع و العطش و التعب لكن لا أثر لمسكن أو مخلوق وسط هذا السهل الشاسع و
الخالي من الحياة... فجأة لمح شيئا من بعيد...
- يا الله... شجرة... أخيرا سأجلس تحت ظل شجرة و أستريح قليلا... الحمد لله...
حين اقترب من الشجرة وجد شخصا آخر جالسا في ظلها و قربه كيس كبير... تبادلا التحية ثم
جلسا مع يقتسمان الخبز و الماء و التمر... سأل الغريب العطار:
- ما وجهتك؟ و ما عملك؟
- أقصد المدينة القريبة من هنا... بعد ذلك سأرحل إلى التي بعدها و هكذا دواليك... فأنا تاجر...
أتاجر في التوابل و الأعشاب و لا أتوقف عن الترحال من مكان لآخر...
- أنا أيضا تاجر... لكني تاجر في الأحجار الكريمة و الأشياء الثمينة...
- و كيف تتنقل... لا أرى معك دابة؟
- إنني أتنقل مع القوافل... لقد وصلت رفقة أحد القوافل إلى هذه النقطة حيث أنتظر وصول
قافلة أخرى ستأتي من الجهة المعاكسة... فأنا لا أبيع في الأسواق بل مباشرة لتجار القوافل...
غالبا ما يكون معهم أثرياء يعطون الكثير مقابل بضاعتي النادرة...
- حقا؟؟
- أجل، سأريك بعضها...
عرض عليه بعض العقود و الخواتم... ثم أراه مسبحة جميلة الصنع...
- أرأيت مثل هذه المسبحة من قبل؟
- إنها جميلة...
- إنها من المرجان... و ثمنها يفوق الخيال...
- اعذرني يا أخي... لكني أرى أن كونها مسبحة يعطيها قيمة أكبر من كونها من المرجان...
- هههههههههه... حقا يا صاحبي... أنت تستحقها على ما قلت... تفضل... خذها...
- لكن ليس باستطاعتي اقتناء شيء ثمين كهذا...
- لا.. أنا لا أبيعك... أنا أهديك إياها عن طيب خاطر... خذها يا رجل... إنها لك...
و بينما العطار يتأمل جمال المسبحة بين يديه... تبدلت ملامح رفيقه و هو يستخرج عقدا أزرق
من كيسه...
- يا إلهي... ماذا فعلت...
- ما بك يا رجل؟
- هذا العقد الفيروزي... لقد بعته لأحد الأثرياء للتو مع أشياء أخرى... أعطاني مقابله مبلغا
ضخما لكن لا أدري كيف لم أنتبه و أضعه مع باقي البضاعة المباعة... يا للعار... سيظنني
سرقته أو نصبت عليه...
- منذ متى رحلت القافلة؟
- منذ قليل فقط... عندما وصلت أنت كانوا قد رحلوا للتو و أظنهم لم يبلغوا المدينة بعد...
- إذن هلم بنا نمتطي حصاني و نسرع للحاق بهم...
- فكرة جيدة... لكن... ألا ترى أن حمل رجلين و كل هذه البضاعة كثير على الحصان المسكين؟
- معك حق... سأبقى قرب بضاعتي و يمكنك أخذ الحصان للحاق بالقافلة...
- شكرا يا صديقي... لن أتاخر...
رحل الرجل... و بقي العطار جالسا تحت الشجرة و معه كيسان من التوابل و الأعشاب... التفت
قربه فرأى كيس الرجل الآخر فقال في نفسه:
- غريب أمر هذا الرجل... كيف يترك كيسا من الجواهر الثمينة قرب شخص غريب... ألا يخاف أن
أسرقه؟؟... أو ربما فعل ذلك لأطمن على حصاني؟؟...
ظل العطار جالسا تحت ظل الشجرة مدة طويلة... قاربت الشمس على المغيب و الرجل لم يعد
بعد... أخذه النوم بغتة و لم يستفق إلى مع طلوع الفجر... نظر حوله... ما زالت الأكياس قربه و
لا أثر للغريب... انتابه القلق و الشك ففتح كيس الرجل الآخر... فماذا وجد؟؟ طبعا ليس جواهر...
بل مجرد كيس مملوء بالحجارة و التراب
فهم العطار المسكين أنه وقع ضحية نصب و خداع... جر كيسيه و قدميه حزينا إلى أن أدرك
المدينة... باع كل ما معه من بضاعة ثم قصد أحد تجار المجوهرات... طلب منه أن يخبره بقيمة
المسبحة المرجانية...
- إنها متقنة الصنع لكنها ليست من المرجان... إنها حجارة حمراء تشبه المرجان لكن بلا
قيمة... من باعك هذا؟
حكى الرجل المسكين قصته للتاجر...
- آسف يا رجل... من الواضح أن رفيقك هذا محتال و لص محترف... أسأل الله أن يعوضك عن حصانك...
وبينما هو يسعى في المدينة بلا وجهة معينة... رأى جمعا من الناس ملتفين حول حصان
معروض للبيع بالمزايدة...
- لكن... إنه حصاني... نعم... إنه نادر... إنه هو...
أسرع مهرولا نحو الرجل المحتال و أمسك به من عبائته:
- أيها اللص... أعد لي حصاني أيها المحتال...
- هل أنت مجنون... أيها الناس... خلصوني من هذا المعتدي...
و بينما هما يتعاركان تدخل عسكريان و أخذاهما للمثول أمام القاضي... أصغى بانتباه لقصة
العطار ثم سأل الرجل:
- ما قولك في هذا؟
- إنه مخبول يا سيدي القاضي... فأنا لم أره من قبل... و الحصان حصاني يا سيدي...
فكر القاضي مليا ثم أمر بأخذ الحصان إلى الاسطبل و طلب من كل واحد من الرجلين أن يتعرف
على الحصان بين الأحصنة الأخرى... كلاهما تعرف عليه...
أم كلا منهما أن ينادي الحصان بإسمه (نادر) و أن يذهب إليه و يداعبه... و لاحظ رد فعل الحصان
الذي كان مختلفا رغم استجابته لكليهما... لكنه قبل أن يحسم الأمر قال لهما:
- آخر شيء سألجأ إليه هو استشارة الحصان... فهو لن يكذب و سيدلني على صاحبه... توجه
القاضي نحو الحصان و سأله:
- من صاحبك يا نادر؟
ثم وضع أذنه أمام فم الحيوان ثم استدار غاضبا:
- ارموا بذلك اللص في السجن... إن الحصان حصان العطار...
استعاد الرجل حصانه و قبل أن يرحل سأل القاضي:
- لا تؤاخذني يا سيدي القاضي... لكن فضولي غلبني... هل حقا تكلم الحصان؟
- نعم... الحصان لا يكذب... لقد تكلم بلغة العيون و العواطف... رأيت كيف استجاب لندائك و
مداعبتك و عيناه تفيضان ودا و حنانا... فمخلوقات الله لا تنطق لكن لها قلبا يرتبط بصاحبها ما
دام يحسن إليها و هي قد تكون أكثر وفاءا له من البشر...
منقول
