اجتاز ضابط أمن الدولة ـ بمهابة هيئته وثقة خطواته ـ باب الحجرة الصغيرة المعتمة، واتخذ مجلسه فوق المقعد الخشبي الذي يتوسط الحجرة كئيبة المظهر.. أمامه عبر طاولة خشبية جلس المتهم بجسد ضئيل مرتجف، يرتشف بعينين ملأهما الفزع، نظرات القسوة والوعيد المتطايرة من عيني الضابط، الذي حاول أن يطرد كل الأفكار التي تملأ كيانه بحالة من التردد ـ يكره أن تنتابه ـ إزاء جريمة ذلك المتهم، ومدى إدانته، خاصة بعد أن أكدت تقارير الفحص أن السلاح الذي تم ضبطه ليس أكثر من فردة حذاء أسود برباط، مقاس 45.. ليس بها ما يريب، باستثناء الرائحة النتنة المنبعثة منها
إلا أن الضابط كان يعلم أن في إدانته للمتهم استجابة لرغبات عليا.. لذا كان عليه أن يسير بالتحقيق في هذا الاتجاه بأية طريقة
ـ اسمك وسنك ومهنتك؟
قالها الضابط مفتتحًا التحقيق، فأجاب الشاب بنبرات مرتجفة
ـ سالم سلامة عبد الصبور.. 29 سنة
بنفاذ صبر صاح الضابط: ومهنتك؟
تردد الشاب ثم قال: حاصل على بكالوريوس زراعة
فهم الضابط من هذا: يعني لا تعمل؟
بسرعة قال الشاب: لأ يا باشا.. باعمل.. بس عمل مؤقت كدة لغاية ما ربنا يفرجها
صرخ به الضابط: ما تقول بتشتغل إيه يا ابن الـ
هرول لسان الشاب قائلاً: بشتغل في مجال تكنولوجيا الاتصالات
ـ إيه؟ مهندس؟
بحرج قال الشاب: لا يا باشا.. واقف في سنترال
ـ أبوك بيشتغل ايه؟
ـ كان مدير إدارة في شركة للغزل والنسيج
ـ ودلوقتي.. قاعد في البيت؟
فكر الشاب قليلاً، ثم أجاب: والله.. هو في الأول كان عاوز يشتغل.. حتى مرة قرا إعلان في الجرنال بيقول: مطلوب شباب حديثي التخرج، أو أفراد على المعاش المبكر.. قام قاللي: تعالى ياواد ياسالم نروح، بدل ما احنا عواطلية.. روحنا يا باشا، لاقيناهم طالبين ناس يشتغلوا أمن وعمال نضافة.. أبويا وجعته كرامته، وقال: والله ما أنا شغال.. ومن ساعتها وهو قاعد في البيت يشتم في الحكو
في آخر لحظة انتبه الشاب إلى زلة لسانه، التي التقطها الضابط الأريب، وتسببت له في ذلك الجحوظ المخيف في عينيه المسلطتين على وجه الشاب المرتبك، الذي حاول تدارك خطأه: بيشتم في الحكومة الأمريكية.. عشان إللي بتعمله في العراق
ازداد جحوظ عينا الضابط، فحاول الشاب أن يتدارك من جديد: أقصد.. بيشتم في الحكومة الإسرائيلية، عشان إللي بتعمله في غزة
هنا كست حمرة الغضب وجه الضابط.. فأسرع الشاب يتدارك: قصدي كان بيشتم في حكومة إيران يا باشا.. أيوة.. هيّ إيران.. وكان بيدعي عليهم في كل صلاة
هدأت ملامح وجه الضابط أخيرًا، وعاد إلى سياق الاستجواب
*******
ـ ليه مااشتغلتش حاجة في تخصصك؟
لفترة لم يجب الشاب، ولم يبد على وجهه أي دليل على نية الإجابة.. فصاح به الضابط: ما ترد يابني آدم
انتفض الشاب قائلاً: هو حضرتك بتكلمني أنا؟
ـ أمال بكلّم الترابيزة؟
ـ أنا آسف يا باشا.. أصل السؤال مفاجئ.. وبعدين ده سؤال غريب، عمري ما توقعت إن ممكن حد يسألهولي
ـ وأديني سألتهولك.. جاوب بقى
فكر الشاب قليلاً: والله يا باشا.. يمكن يكون كسل مني.. مع إني قريت مرة إن وزارة الزراعة ناوية تسفّر مهندسين زراعيين شباب عشان يزرعوا في أوغندا.. وروحت فعلاً قدمت ورقي.. بس الظاهر إن أنا نحس
سأله الضابط فجأة: إنت متجوز ياسالم؟
ـ يا باشا أنا مش لاقي أجيب بنطلون بدل بنطلوني إللي انقطع
مباشرة قفز الضابط إلى الاستنتاجات: كدة كل حاجة وضحت.. كلامك بيدل عليك.. إنت معارض.. واضح إن مافيش حاجة في البلد عاجباك.. وأكيد ده إللي خلاك تعمل عملتك السودة
صاح الشاب فزعًا: لا يا باشا.. مش صحيح.. ده أنا بحب البلد.. وحكومة البلد
قال الضابط مواصلاً ضغطه: الكلام ده مش ح يفيدك.. إحنا هنا خبرا في التعامل مع أمثالك.. وبنعرفهم من ريحتهم
ـ يا باشا أنا ما عملتش حاجة
ـ يا راجل ده إنت ممسوك متلبس
قارب الشاب حدود البكاء وهو يصيح: ده أنا كنت موطي أربط الجزمة
هاجمه الضابط: وحد يربط الجزمة في الشارع لحظة مرور موكب مسؤول كبير؟!! إنت مش عارف إن العالم حاليًا بيمر بحالة: جزمة فوبيا؟
ـ مش ذنبي يا باشا.. هو الرباط إللي ماعندوش حس وطني
ـ بس محضر الضبط بيقول إنك كنت بتحاول تقلع الجزمة عشان ترميها على عربية المسؤول
ـ هو أنا لحقت أعمل حاجة.. ده أنا يا دوب مسكت طرف الرباط، لاقيت خمس مخبرين مكتفيني وراميني على الأرض وبيقلعوني الجزمة
ضرب الضابط الطاولة بقبضته وهو يصيح: التقارير بترجح إن في الجزمة مواد كيماوية قد تكون متفجرة.. وده واضح في الريحة المعفنة إللي طالعة منها
*******
ـ يا باشا دي ريحة الشراب.. ما أنا بقالي كام ساعة لابس الجزمة وواقف على حيلي في السنترال
ـ ح ترجع تاني لكلام المعارضة ده؟
ـ لا يا باشا.. العفو.. أنا أقصد إني كنت لسة جاي من النادي.. كنت بلعب تنس
للحظات ساد الصمت، قبل أن يقول الضابط متصنعًا الهدوء: ساعد نفسك يا ابني.. الجريمة لبساك لبساك.. ساعد نفسك وقولنا مين مشترك معاك
ـ مشترك معايا في الجزمة؟
صاح الضابط: إنت ح تستعبط؟!! مين مشترك معاك في الجريمة؟ جماعات معارضة داخلية.. ولا فيه تمويل أجنبي؟
ـ تمويل أجنبي إيه يا باشا؟!!! أنا شاري الجزمة دي من حر مالي
زفر الضابط مستعيدًا نغمة الهدوء.. وقال وهو يظهر للشاب نسخة من جريدة يومية شهيرة: واضح يا سالم إنك ما صدقتنيش لما قولتلك إن الجريمة لبساك لبساك
ألقى الضابط بالجريدة أمام عيني الشاب، مفتوحة على صفحة تتصدرها صورة والده ـ الحاج سلامة عبد الصبورـ وهو يتابع: اقرا إعترافات والدك.. إقرا الكلام إللي قاله عليك في الجرايد.. وبلا أي ضغوط
جرت عينا الشاب على أسطر المقال الذي كان عنوانه يؤكد: والد المتهم يتحدث: ابني شخصية مخربة.. مختل العقل.. يحمل أفكارًا شيوعية هدامة.. وله اتجاهات يمينية متطرفة
وفي باقي المقال شهادات لجيرانه وأصدقائه، كلها تتحدث عن المصائب التي اعتاد ارتكابها منذ نعومة أظافره.. وفي نهاية المقال صورة لوالده ضاحكًا ملئ شدقيه.. رافعًا كفيه إلى السماء.. والتعليق تحتها يقول: والد المتهم يحمد الله لأن ابنه نال الجزاء العادل
*******
ـ كل ده أنا؟
ـ ده كلام أبوك.. وبلا أي ضغوط
عندها لم يجد الشاب سوى الاستسلام.. فقد أدرك أن ما يواجهه أكبر من امكانياته المحدودة.. وخبراته شبه المعدومة.. لذا عندما كرر الضابط سؤاله: خلصني بقى واعترف.. مين إللي وراك؟
أجاب الشاب: أبويا يا باشا.. أبويا هو رئيس التنظيم.. هو كمان شيوعي هدام، ويميني متطرف.. حتى في البيت بنقول عليه: الأخ الرفيق
بلهفة قال الضابط: فيه دليل على كلامك ده؟
ـ أيوة يا باشا.. هو إللي اشترالي الجزمة دي.. وبعدين لو مسكتوه، أنا واثق إن كل الجيران والمعارف ح يشهدوا عليه هو كمان.. ده مش بعيد تطلعوا أمي من تربتها تشهد عليه
لحظتها أطلق الضابط تنهيدة راحة، وهو يقول: كدة يا سالم الحكومة ممكن تساعدك زي ما إنت ساعدتها.. وكلها كام سنة في السجن.. ونعملك مراجعات فكرية نصورها في التليفزيون.. بعدها تطلع من السجن إنسان جديد، بعد ما تتعهد أمام الشعب إن عمرك ما ح تلبس جزمة تاني
بشيء من الأمل قال الشاب: طب يا باشا مش ممكن أتعهد دلوقتي؟ وبلاش حكاية السجن دي.. وأطلع من عندكوا حافي
ـ يا ابني إنت كده كده ح تطلع من عندنا حافي.. يبقى ليه بقى تضيع على نفسك الشهرة؟.. ياللاّ.. خدووووووه
:):):):):):)
