تك....تك....تك....
تك....تك....تك....
*كفي الزعبي
حدثني صديقنا العراقي عن رحلة الخلاص التي خاضتها أخته وأخوه هربا من الموت. قال أنه قد مضي علي أخته البالغة الآن من العمر الخامسة والعشرين، ثمانية أعوام لم تخرج فيها من البيت. لم تخرج فيها من البيت فعلا ـ قال مؤكدا المعلومة... ثم ومرة واحدة قررت الخروج، ليس من البيت بل من العراق كله....
الرحيل: بعد أن اجتازا سورية ـ وتلك قصة طويلة ومتعبة ـ سارا علي الأقدام عبر الأراضي التركية ـ مع المهربين ـ حتي الحدود اليونانية!
ـ سيرا علي الأقدام؟!
ـ أجل!.... تصوري، قطعا كل الأراضي التركية سيرا علي الأقدام... أيام طويلة وعديدة ومضنية من السير المتواصل ـ يقول وهو يضحك ليس لأن الأمر ينطوي علي فكاهة، بل كي لا يبكي ـ أصبح وزنها خمسة وعشرين كيلو غراما! كنت أتساءل مستغربا: خمسة وعشرون؟! فوزن عظامها لا بد يزيد عن ذلك! أما أخي فقد وصل وزنه إلي أربعين...كانا قذرين، جائعين ... منهكين علي وشك الانهيار، لكن كل ذلك لم يواز رعبهما من الجثث التي كانا يصادفانها بين الخطوة والأخري في الأدغال...جثث بعضها حديث وبعضها تحلل.. جثث الباحثين عن الخلاص: مثلهما.
ـ والنهاية؟ هل اجتازا الحدود التركية ـ اليونانية؟!
ـ أجل! لكن المهرب الأخير الذي قاد طريقهما ـ وبعد أن أخذ كل ما تبقي لديهما من نقود ـ تركهما وطلب منهما أن ينتظراه .. وبقيا ينتظرانه، إلي أن جاءتهما شرطة الحدود اليونانية واعتقلتهما!
ـ اعتقلتهما؟!
ـ أجل! ـ أجابني ضاحكا ـ تصوري! أختي التي بقيت سجينة البيت لمدة ثماني سنوات تسقط في السجن ما أن تفكر بالنجاة! يا للمسكينة. تسجن في بلد لا تعرف فيه أحدا... ولا لسبب...فقط لأنها تريد أن تعيش. لا أستطيع أن أصدق! لقد أمضي كل منهما شهرا في السجون اليونانية...
كانت شهور رحلتهما سوداء حقا... ـ يقول ساهما إنما دون أن يضحك ـ... لكن، الحمد لله، ففي النهاية استطاع أخي الثالث المقيم في السويد والحاصل علي الجنسية السويدية أن ينقذهما، لم يكن الأمر سهلا علي الإطلاق، لم يكن ينام لأيام. كان يلهث وحسب، في شوارع اليونان من مكان إلي آخر!...
حسنا! أفضل أن أنسي وأفكر في النهاية فقط، فقد وصلا أخيرا إلي السويد، في حين كنت فقدت الأمل. الحمد لله! انتهي الكابوس!
وسهم فكره، كنت أظن أنه يفكر ـ كما كنت أفكر ـ بهيكل نحيل لفتاة وزنها أصبح خمسة وعشرين كيلو غراما وشاب أصبح وزنه أربعين... معفرين بغبار المأساة... يجتازان أدغالا مزروعة بالجثث...
لكنه فاجأني وهو يتحدث عن العراق:
ـ لقد حاولا أن يبقيا هناك بعد وفاة أمي... فرحلا من حيّنا لأن العيون كانت تلاحق أخي، إذ كان جسده قويا. كانوا يأتونه يوميا ليجندوه... وهو لا يريد أن يحارب العراقيين، رحلوا مع من تبقي من العائلة إلي حي آخر... وما لبثوا أن أكتشفوا أنهم هربوا من جهنم إلي الجحيم....! لا مناص من الرحيل، ولو بالتقسيط، هذا ما توصلوا إليه!
كنت أصغي إليه وأنا أتخيل مشاهد جاهزة ، مشاهد لا يعاني ذهني في ابتداعها... فالواقع حتما أغني من الخيال، حتي أنني لم أكن أميز: هل حدثت تلك الدماء التي حضرت الي مخيلتي قبل أعوام أم قبل عام أم قبل شهر... أم حدثت بالأمس؟ لا أدري... ما أدريه أن المشكلة ليست في ذاكرتي بل في تشابه الدماء والأيام...
ـ لقد حطموا العراق! قال...
ہہہ
كان الشاب الأردني الطافح نخوة ويأسا يشكو من سوء أحواله: لا عمل... لا وظيفة وليس ثمة قرش واحد في جيبه. ولم يكن ينتابه أدني شك بأن المسؤول الأول عنها هو الشعب الشقيق الذي ينازعه علي اللقمة قبل المكان....
وأنا أصغي ولا أسمع في صوته إلا نبضا يتك...
وفي زمان ومكان آخرين، أسمع شابا فلسطينيا يشكو من سوء أحواله من دون أن ينتابه الشك في أن المسؤول عنها الظلم والتمييز بسبب أصوله...وفيما كنت أصغي إليه رحت أسمع في صوته نبضا يتك....
ثم أضطر لركوب تكسي، نتيجة عطل طارئ في سيارتي. سائق التكسي لا يفصح عن أصوله، لكنه يضع في مسجلة سيارته شريطا لفتاوي دينية:
هناك من يقول أن المرأة يجب أن تغطي كامل جسدها فلا يظهر منه إلا الوجه والكفان والقدمان... ويقول بعضهم أن المرأة يجب أن تغطي كامل جسدها بما في ذلك كفاها وقدماها ولا يظهر من وجهها إلا العينان،... وذهب البعض إلي أن المرأة يجب أن تغطي إحدي عينيها...! ـ صدقوني! أنا لا أؤلف... فقد سمعت ذلك بأذني، وعجزت عن كبت ضحكتي،
... لكن السائق سرعان ما بتر ضحكتي وخيط مخيلتي وشرع بالحديث كما لو أنه يحدث نفسه: علي عينك يا جارة ـ أفهم قصده ـ مؤكدا أن أسباب كوارثنا تكمن ـ لعله ظن أنني أنتمي لدين آخر غير الإسلام ـ في أهل الكتاب الذين بحضورهم ينشرون ثقافة تخالف تعاليم ديننا... فتنكتم ضحكتي وينصهر صوت السائق والمفتي في نبض يتك....
وأسمع أيضا من يندب حظه لأنه ليس من أهل الشمال ـ حينها لا أجرؤ علي التصريح بأنني من أهل الشمال ـ وإلا كان وصل... ويبدأ النبض يتك....
وفي كل مرة أتخيل المشهد ذاته:
هيكلان نحيلان لشاب وشابة،...يسيران معفرين بيأسهما وبغبار حطام أمل ... عبر أدغال الخلاص المفروشة بالجثث، بحثا عن الحياة.
وخلال ذلك أسمع النبض يتك ببطء: تك...تك... تك...
وأري ثمة من يقف في الظل، يضع كل أسلحته جانبا، فلا حاجة فعلية لها.... بينما يده علي الزر، بانتظار اللحظة المناسبة، كي يفجر القنبلة.... فنسقط جميعنا ضحايا جميعنا...
لا أدري، هل ستتسع الأدغال، أو السويد لكل هذه الأرقام الموقوتة بكل أسباب الموت؟!
*روائية اردنية