وتتجلى رحمة الله في النفس الناهية عن السوء التي تقف حائلا دون ارتكاب المعاصي
والآثام قال تعالى (إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بــِالسُّوْءِ إِلاَّ مَنْ رَّحِمَ رَبِّيْ) صورة يوسف آية 53
فهذه النفس الحية التي توقظ صاحبها من الغفلة، وتذكره بالله وتثبت في نفسه دائمًا الخوف منه ، والإيمان بحسابه وعقابه في الدنيا والآخرة ، فتنهى صاحبها عن السوء،
بل وتدفعه جريًا إلى الاستغفار والتوبة ، هي رحمة من الله عز وجل ،
وابتداء فسد أبواب الرذيلة والوقاية من الوقوع في المعاصي وصرف القلوب والجوارح عن الآثام وتوجيهها إلى الله من أجل مظاهر رحمة الله،
ومن رحمته بعباده أنه جلا وعلا نهي من عظمت ذنوبهم منهم وكثرت ،
عن اليأس من رحمته قال تعالى (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِيْنَ أَسْرَفُوْا عَلـٰـى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوْا
مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) سورة الزمر آية 53
كما تتجلى رحمته تعالى في التجاوز عن سيئاتنا إذا عمل أحدنا السوء بجهالة ثم تاب،
وفي المجازاة عن السيئة بمثلها ومجازاته على الحسنة بعشر أمثالها
والمضاعفة عن ذلك لم يشاء ، ومحو السيئة بالحسنة ، وفي تأخير العقاب إلى يــوم القيامـــة
قال تعالى في ســـورة فاطر آية 45 (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوْا مَا تَرَكَ عَلـٰـى ظَهْرِهَا
مِنْ دَابَّةٍ وَّلـٰـكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إلـٰـى أَجَلٍ مُسَمًّى فإِذَاجَاءَ أَجَلُهُمْ فَإنَّ اللهَ كَانَ بِعَبَادِه بَصِيْرًا)
ويوم القيامة لا يبلغ أحد أن يدخل الجنة بعمله إلا أن يتغمده الله برحمته
حتى رسول الله كما قال عن نفسه ، فقد أخرج البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يدخل أحدكم الجنة بعمله) قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال (ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته) .
وتتجلى رحمة الله في النجاة من المهالك والتي لا يتنجى منها مهما اتخذ من الأسباب
إلاّ برحمة من الله،
قال تعالى إخبارًا عن نوح عليه السلام في سورة هود آية 42 و 43
(ونَادىٰ نُوْحٌ اِبْنَه وَكَانَ فِيْ مَعْزِلٍ يَّا بُنَيَّ ارْكَبْ مَّعَنَا وَلاَ تَكُنْ مَّعَ الْكَافِرِيْنَ
قَالَ سَآوِيْ إِلـٰـى جَبَلٍ يَعْصِمُنِيْ مِنَ الْمَاءِ قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَومَ مِنْ أَمْـرِ اللهِ إِلاَّ مَنْ رَّحِمَ
وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِيْنَ)
لقد اتخذ ابن سيدنا نوح من الأسباب ما يظن أنها تنجيه من أمر الله ،
فأعتقد أن الطوفان لا يبلغ رؤوس الجبال وأنه لو تعلق في رأس جبل لنجاه ذلك من الغرق ؛
ولكن سيدنا نوح وهو المُدرِك لحقيقة هذا الأمر يخبره ، بأن لا جبال ولا مخابئ ولا حام ولا واق
ولا غيرهم من الأسباب تنجي من أمر الله إلاّ من شملته رحمة الله بالعناية والحماية
وما أكثر المهالك التي تحيط بنا وتغمرنا من رأسنا حتى أخمص قدمنا ،
وما هناك أدنى بصيص في النجاة منها مالم تشملنا رحمه الله .
ورحمة الله وجدها سيدنا إبراهيم عليه السلام حينما ألقاه الكفار في النار
فجعلها الله بردًا وسلامًا عليه، ووجدها يوسف عليه السلام في الجب ،
كما وجدها في السجن ، ووجدها يونس عليه السلام في بطن الحوت
ووجدها موسى عليه السلام في اليم وهو طفل مجرد من كل قوة ومن كل حراسة ،
كما وجدها في قصر فرعون وهو عدو له متربص به ويبحث عنه ،
ووجدها أصحاب الكهف في الكهف حين افتقدوها في القصور والدور،
ووجدها الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار والقوم يتعقبونهما
ويقصون آثارهما ، وبرحمة الله نجى سيدنا هود وصالح وإبراهيم وشعيب ويونس
من مكائد قومهم ، التي دبرت للإطاحة بهم وجهض دعواتهم .
وتتمثل رحمه الله في الشفاء من الأمراض مهما اشتدت وطأتها ،
وبات البراء منها ميئوسًا ، وضرب لنا القرآن مثلاً بسيدنا أيوب فقد كان له
من الدواب والأنعام والحرث شيء كثير وأولاد كثيرة ،
فابتلي في ذلك كله وذهب عن آخره ثم ابتلي في جسده يقال بالجذام في سائر بدنه ،
ولم يبق منه سليم سوى قلبه ولسانه يذكر بهما الله عز وجل حتى عافه الجليس
وأفرد في ناحيـــة من البلد ، ولم يبــق أحد من الناس يحنو عليـــه سوى زوجته ،
كانت تقوم بأمره في وفاء قلما ما نجد مثله في أيامنا هذه،
ويقال إنها احتاجت فصارت تخدم الناس ، فتجلت رحمة الله عليه فشفي من الأمراض ؛
بل وعوض عن ما فقده قال تعالى (وَأَيُّوْبَ إِذْ نَادٰى رَبَّه أَنّيْ مَسَّنِيَ الضُّرُ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِيْنَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِه مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَه وَمَثْلَهُمْ مَّعَهُمْ
رَحْمةً مِّنْ عِنْدِنَا وَذِكْرٰى لِلْعَابِدِيْنَ) سورة الأنبياء الآيات 83-84.