جزاك الله كل خير وجعله فى ميزان حسناتك
http://img443.imageshack.us/img443/5/15rg1.gif
عرض للطباعة
جزاك الله كل خير وجعله فى ميزان حسناتك
http://img443.imageshack.us/img443/5/15rg1.gif
اعوذ بالله من الشيطان الرجيم
تفسير سورة الكهف - الآية: 94
(قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سداً "94")
المراد بالقول هنا: دلالة معبرة تعبير القول، فلابد أنهم تعارفوا على شيء كالإشارة مثلاً يتفاهمون به.
ويأجوج ومأجوج قوم خلف السدين أو الجبلين، ينفذون إليهم من هذه الفجوة، فيؤذونهم ويعتدون عليهم؛ لذلك عرضوا عليه أن يجعلوا له (خرجاً) أي: أجراً وخراجاً يدفعونه إليه على أن يسد لهم هذه الفجوة، فلا ينفذ إليهم أعداؤهم.
ثم يقول الحق ـ تبارك وتعالى ـ عن ذي القرنين أنه
(آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطراً "96")لم يكن ذو القرنين رجلاً رحالة، يسير هكذا بمفرده، بل مكنه الله من أسباب كل شيء، ومعنى ذلك أنه لم يكن وحده، بل معه جيش وقوة وعدد وآلات، معه رجال وعمال، معه القوت ولوازم الرحلة، وكان بمقدوره أن يأمر رجاله بعمل هذا السد، لكنه أمر القوم وأشركهم معه في العمل ليدربهم ويعلمهم ماداموا قادرين، ولديهم الطاقة البشرية اللازمة لهذا العمل.
والحق ـ تبارك وتعالى ـ يقول:
{لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها .. "7"}
(سورة الطلاق)
فمادام ربك قد أعطاك القوة فاعمل، ولا تعتمد على الآخرين؛ لذلك تجد هنا أوامر ثلاثة: أعينوني بقوة، آتوني زبر الحديد، آتوني أفرغ عليه قطراً.
زبر الحديد: أي قطع الحديد الكبيرة ومفردها زبرة، والقطر: هو النحاس المذاب، لكن، كيف بنى ذو القرنين هذا السد من الحديد والنحاس؟
هذا البناء يشبه ما يفعله الآن المهندسون في المعمار بالحديد والخرسانة؛ لكنه استخدم الحديد، وسد ما بينه من فجوات بالنحاس المذاب ليكون أكثر صلابة، فلا يتمكن الأعداء من خرقه، وليكون أملس ناعماً فلا يتسلقونه، ويعلون عليه. فقوله:
{حتى إذا ساوى بين الصدفين .. "96"}
(سورة الكهف)
الصدف: الجانب، ومنه قوله تعالى:
{فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها .. "157"}
(سورة الأنعام)
أي: مال عنها جانباً. فمعنى: ساوى بين الصدفين. أي: ساوى الحائطين الأمامي والخلفي بالجبلين:
{قال انفخوا .. "96"}
(سورة الكهف)
أي: في الحديد الذي أشعل فيه، حتى إذا التهب الحديد نادى بالنحاس المذاب:
{قال آتوني أفرغ عليه قطراً "96"}
(سورة الكهف)
وهكذا أنسبك الحديد الملتهب مع النحاس المذاب، فأصبح لدينا حائط صلب عالٍ أملس. لذلك قال تعالى بعدها:
تفسير سورة الكهف - الآية: 100
(وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضاً"100")أي: تعرض عليهم ليروها ويشاهدوها، وهذا العرض أيضاً للمؤمنين، كما جاء في قوله تعالى:
{وإن منكم إلا واردها .. "71"}
(سورة مريم)
والبعض يظن أن (واردها) يعني: داخلها، لا بل واردها بمعنى: يراها ويمر بها، فقد ترد الماء بمعنى: يراها ويمر بها، فقد ترد الماء بمعنى تصل إليه دون أن تشرب منه؛ ذلك لأن الصراط الذي سيمر على الجميع مضروب على ظهر جهنم ليراها المؤمن والكافر.
أما المؤمن فرؤيته للنار قبل أن يدخل الجنة تريه مدى نعمة الله عليه ورحمته به، حيث نجاه من هذا العذاب، ويعلم فضل الإيمان عليه، وكيف أنه أخذ بيده حتى مر من هذا المكان سالماً. لذلك يذكرنا الحق سبحانه بهذه المسألة فيقول:
{فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز .. "185"}
(سورة آل عمران)
أما الكافر فسيعرض على النار ويراها أولاً، فتكون رؤيته لها قبل أن يدخلها رؤية الحسرة والندامة والفزع؛ لأنه يعلم أنه داخلها، ولن يفلت منها. وقد وردت هذه المسألة في سورة التكاثر حيث يقول تعالى:
{ألهاكم التكاثر "1" حتى زرتم المقابر "2" كلا سوف تعلمون "3" ثم كلا سوف تعلمون "4" كلا لو تعلمون علم اليقين "5" لترون الجحيم "6" ثم لترونها عين اليقين "7" ثم لتسألن يومئذ عن النعيم "8"}
(سورة التكاثر)
والمراد: لو أنكم تأخذون عني العلم اليقيني فيما أخبركم به عن النار وعذابها لكنتم كمن رآها، لأنني أنقل لكم الصورة العلمية الصادقة لها، وهذا ما نسميه علم اليقين، أما في الآخرة فسوف ترون النار عينها. وهذا هو عين اليقين أي: الصورة العينية التي ستتحقق يوم القيامة حين تمرون على الصراط.
وبرحمة الله بالمؤمنين وبفضله وكرمه تنتهي علاقة المؤمن بالنار عند هذا الحد، وتكتب له النجاة؛ لذلك قال تعالى بعدها:
{ثم لتسألن يومئذ عن النعيم "8"}
(سورة التكاثر)
أما الكافر والعياذ بالله فله مع النار مرحلة ثالثة هي حق اليقين، يوم يدخلها ويباشر حرها، كما قال تعالى:
{وأما إن كان من المكذبين الضالين "92" فنزل من حميم "93" وتصلية جحيم "94" إن هذا لهو حق اليقين "95" فسبح باسم ربك العظيم "96"}
(سورة الواقعة)
إذن: عندنا علم اليقين، وهو الصورة العلمية للنار، والتي أخبرنا بها الحق سبحانه وتعالى، وأن من صفات النار كذا وكذا وحذرنا منها، ونحن في بحبوحة الدنيا وسعتها. وعين اليقين: في الآخرة عندما نمر على الصراط، ونرى النار رؤيا العين. ثم حق اليقين: وهذه للكفار حين يلقون فيها ويباشرونها فعلاً.
وقد ضربنا لذلك مثلاً: لو قلت لك: توجد مدينة اسمها نيويورك وبها ناطحات سحاب، وأنها تقع على سبع جزر، ومن صفاتها كذا وكذا فأعطيك عنها صورة علمية صادقة، فإن صدقتني فهذا علم يقين. فإن مررنا عليها بالطائرة ورأيتها رأى العين فهذا عين اليقين، فإن نزلت بها وتجولت خلالها فهذا حق اليقين.
إذن: فقوله تعالى:
{وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضاً "100"}
(سورة الكهف)
ليس كعرضها على المؤمنين، بل هو عرض يتحقق فيه حق اليقين بدخولها ومباشرتها. ثم يقول الحق سبحانه
الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعاً"101")
أي: على أبصارهم غشاوة تمنعهم إدراك الرؤية، ليس هذا وفقط، بل:
{وكانوا لا يستطيعون سمعاً "101"}
(سورة الكهف)
والمراد هنا السمع الذي يستفيد منه السامع، سمع العبرة والعظة، وإلا فآذانهم موجودة وصالحة للسمع، ويسمعون بها، لكنه سماع لا فائدة منه؛ لأنهم ينفرون من سماع الحق ومن سماع الموعظة ويسدون دونها آذانهم، فهم في الخير أذن من طين، وأذن من عجين كما نقول.
أما المؤمنون فيقول الحق تبارك وتعالى فيهم:
{وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق "83"}
(سورة المائدة)
إذن: فكراهية أولئك للمسموع جعلتهم كأنهم لا سمع لهم، كما نقول نحن في لغتنا العامية: (أنت مطنش عني)، يعني لا تريد أن تسمع، ومن أقوال أهل الفكاهة: قال الرجل لصاحبه: فيك من يكتم السر؟ قال: نعم، قال: أعطني مائة جنيه، قال: كأني لم أسمع. ولذلك حكى القرآن عن كفار مكة قولهم:
{لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون "26"}
(سورة فصلت)
يعني: شوشوا عليه، ولا تعطوا الناس فرصة لسماعه، ولو أنهم علموا أن القرآن لا يؤثر في سامعه ما قالوا هذا، لكنهم بأذنهم العربية وملكتهم الفصيحة يعلمون جيداً أن القرآن له تأثير في سامعه تأثيراً يملك جوانب نفسه، ولابد أنه سيعرف أنه معجز، وأنه غير قول البشر، وحتماً سيدعوه هذا إلى الإيمان بأن هذا الكلام كلام الله، وأن محمداً رسول الله؛ لذلك قال بعضهم لبعض محذراً:
{لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه .. "26"}
(سورة فصلت)
وفي آية أخرى يقول الحق تبارك وتعالى:
{ويل لكل أفاك أثيم "7" يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم "8"}
(سورة الجاثية)
وقد يتعدى الأمر مجرد السماع إلى منع الكلام كما جاء في قوله تعالى:
{ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم .. "9"}
(سورة إبراهيم)
فليس الأمر منع الاستماع، بل أيضاً منع الكلام، فربما تصل كلمة إلى آذانهم وهم في حالة انتباه فتؤثر فيهم، أي منعوهم الكلام كما يقال: اسكت، أو أغلق فمك.
ثم يقول الحق سبحانه:
http://www.blqees.com/vb/blqeees/sta...er_offline.gif
اعوذ بالله من الشيطان الرجيم
تفسير سورة الكهف - الآية: 103
(قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً "103")(قل) أي: يا محمد
{هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً "102"}
(سورة الكهف)
الأخسر: اسم تفضيل من خاسر، فأخسر يعني أكثر خسارة (أعمالاً) أي: خسارتهم بسبب أعمالهم. وهؤلاء الأخسرين هم
(الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً "104")وقد ضل سعي هؤلاء؛ لأنهم يفعلون الشر، ويظنون أنه خير فهم ضالون من حيث يظنون الهداية. ومن ذلك ما نراه من أعمال الكفار حيث يبنون المستشفيات والمدارس وجمعيات الخير والبر، وينادون بالمساواة وغيرها من القيم الطيبة، ويحسبون بذلك أنهم أحسنوا صنعاً وقدموا خيراً، لكن هل أعمالهم هذه كانت لله؟
الواقع أنهم يعملونها للناس وللشهرة وللتاريخ، فليأخذوا أجورهم من الناس ومن التاريخ تعظيماً وتكريماً وتخليداً لذكراهم.
ومعنى:
{ضل سعيهم .. "104"}
(سورة الكهف)
أي: بطل وذهب وكأنه لا شيء، مثل السراب كما صورهم الحق سبحانه في قوله:
{والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا .. "39"}
(سورة النور)
وهؤلاء لا يبخسهم الله حقوقهم، ولا يمنعهم الأجر؛ لأنهم أحسنوا الأسباب، لكن هذا الجزاء يكون في الدنيا؛ لأنهم لما عملوا وأحسنوا الأسباب عملوا للدنيا، ولا نصيب لهم في جزاء الآخرة. وقد أوضح الحق سبحانه وتعالى هذه المسألة في قوله تعالى:
{من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب "20"}
(سورة الشورى)
ومع ذلك يبقى للكافر حقه، فلا يجوز لأحد من المؤمنين أن يظلمه أو يعتدي عليه، وفي حديث سيدنا جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت أن محدثاً حدث عن رسول الله بحديث أحببت ألا أموت، أو يموت هو حتى أسمعه منه، فسألت عنه فقيل: إنه ذهب إلى الشام، قال: فاشتريت ناقة ورحلتها، وسرت شهراً إلى أن وصلت إلى الشام، فسألت عنه فقيل: إنه عبد الله بن أنيس، فلما ذهبت قال له خادمه: إن جابر بن عبد الله بالباب، قال جابر: فخرج ابن أنيس وقد وطئ ثيابه من سرعته. قال عبد الله: واعتنقا.
<قال جابر: حدثت أنك حدثت حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ينادي يوم القيامة: يا ملائكتي، أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقصه منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وله عند أحد من أهل النار حق حتى أقصه منه، حتى اللطمة">
فانظر إلى دقة الميزان وعدالة السماء التي تراعي حق الكافر، فتقتص له قبل أن يدخل النار، حتى ولو كان ظالمه مؤمناً. وفي قوله تعالى:
{ضل سعيهم في الحياة الدنيا .. "104"}
(سورة الكهف)
جاءت كلمة الضلال في القرآن الكريم في عدة استعمالات يحددها السياق الذي وردت فيه. فقد يأتي الضلال بمعنى الكفر، وهو قمة الضلال وقمة المعاصي، كما جاء في قول الحق تبارك وتعالى:
{أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل "108"}
(سورة البقرة)
ويطلق الضلال، ويراد به المعصية حتى من المؤمن، كما جاء في قوله تعالى:
{وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبيناً "36"}
(سورة الأحزاب)
ويطلق الضلال، ويراد به أن يغيب في الأرض، كما في قوله تعالى:
{أئذا ضللنا في الأرض أئنا لفي خلق جديدٍ .. "10"}
(سورة السجدة)
يعني: غبنا فيها واختفينا. ويطلق الضلال ويراد به النسيان، كما في قوله تعالى:
{أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى .. "282"}
(سورة البقرة)
ويأتي الضلال بمعنى الغفلة التي تصيب الإنسان فيقع في الذنب دون قصد. كما جاء في قصة موسى وفرعون حينما وكز موسى الرجل فقضى عليه، فلما كلمه فرعون قال:
{فعلتها إذاً وأنا من الضالين "20"}
(سورة الشعراء)
أي: قتلته حال غفلة ودون قصد، ومن يعرف أن الوكزة تقتل؟ والحقيقة أن الرجل جاء مع الوكزة لا بها. ويحدث كثيراً أن واحداً تدهسه سيارة وبتشريح الجثة يتبين أنه مات بالسكتة القلبية التي صادفت حادثة السيارة.
ويأتي الضلال بمعنى: ألا تعرف تفصيل الشيء، كما في قوله تعالى:
{ووجدك ضالاً فهدى "7"}
(سورة الضحى)
أي: لا يعرف ما هذا الذي يفعله قومه من الكفر. ثم يقول الحق سبحانه:
(أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً "105"){كفروا بآيات ربهم .. "105"}
(سورة الكهف)
والآيات تطلق ثلاثة إطلاقات، وقد كفروا بها جميعاً وكذبوا، كفروا بآيات الكون الدالة على قدرة الله، فلم ينظروا فيها ولم يعتبروا بها، وكفروا بآيات الأحكام والقرآن والبلاغ من رسول الله، وكذلك كفروا بآيات المعجزات التي أنزلها الله لتأييد الرسل فلم يصدقوها. إذن: كلمة:
{كفروا بآيات ربهم .. "105"}
(سورة الكهف)
هنا عامة في كل هذه الأنواع. (ولقائه) أي: وكفروا أيضاً بلقاء الله يوم القيامة، وكذبوا به، فمنهم من أنكره كلية فقال:
{أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون "82"}
(سورة المؤمنون)
ومنهم من اعترف ببعث على هواه، فقال:
{ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلباً "36"}
(سورة الكهف)
ومن من قال: إن البعث بالروح دون الجسد وقالوا في ذلك كلاماً طويلاً، إذن: إما ينكرون البعث، وإما يصورونه بصورة ليست هي الحقيقة. ثم يقول تعالى:
{فحبطت أعمالهم .. "105"}
(سورة الكهف)
أي: بطلت وذهب نفعها
{فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً "105"}
(سورة الكهف)
وقد اعترض المستشرقون على هذه الآية
{فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً "105"}
(سورة الكهف)
وقالوا: كيف نوفق بينها وبين الآيات التي تثبت الميزان، كما في قوله تعالى:
{ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين "47"}
(سورة الأنبياء)
وقوله تعالى:
{فهو في عيشة راضية "7" وأما من خفت موازينه "8" فأمه هاوية "9" وما أدراك ما هيه "10" نار حامية "11"}
(سورة القارعة)
ونقول: إن العلماء في التوفيق بين هذه الآيات قالوا: المراد بقوله تعالى:
{فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً "105"}
(سورة الكهف)
جاءت على سبيل الاحتقار وعدم الاعتبار، فالمراد لا وزن لهم عندنا أي: لا اعتبار لهم، وهذه نستعملها الآن في نفس هذا المعنى نقول: فلان لا وزن له عندي. أي: لا قيمة له.
وبالبحث في هذه الآية وتدبرها تجد أن القرآن الكريم يقول:
{فلا نقيم لهم .. "105"}
(سورة الكهف)
ولم يقل: عليهم، إذن: الميزان موجود، ولكنه ليس في صالحهم، فالمعنى: لا نقيم لهم ميزاناً لهم، بل نقيم لهم ميزاناً عليهم.
ثم يقول الحق سبحانه:
تفسير سورة الكهف - الآية: 106
(ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزواً "106")
(ذلك) أي: ما كان من إحباط أعمالهم، وعدم إقامتنا لهم وزناً ليس تجنباً منا عليهم أو ظلماً لهم، بل جزاءً لهم على كفرهم فقوله
{بما كفروا .. "106"}
(سورة الكهف)
أي: بسبب كفرهم.
{واتخذا آياتي ورسلي هزواً "106"}
(سورة الكهف)
فقد استهزءوا بآيات الله، وكلما سمعوا آية قالوا: أساطير الأولين:
{إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين "15"}
(سورة القلم)
وكذلك لم يسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من سخريتهم واستهزائهم، والقرآن يحكي عنهم قولهم لرسول الله:
{يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون "6"}
(سورة الحجر)
فقولهم
{نزل عليه الذكر .. "6"}
(سورة الحجر)
أي: القرآن وهم لا يؤمنون به سخرية واستهزاءً. وفي سورة "المنافقون" يقول القرآن عنهم:
{هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا .. "7"}
(سورة المنافقون)
فقولهم:
{رسول الله .. "7"}
(سورة المنافقون)
ليس إيماناً به، ولكن إما غفلة منهم عن الكذب الذي يمارسونه، وإما سخرية واستهزاءً كما لو كنت في مجلس، ورأيت أحدهم يدعي العلم ويتظاهر به فتقول: اسألوا هذا العالم.
وفي آية أخرى يقول سبحانه عن استهزائهم برسول الله:
{وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون "51"}
(سورة القلم)
ثم يتحدث القرآن عن المقابل لهؤلاء، فيقول:
سبحانك ربي ما اعظمك
نفعك الله بما نفعتنا
تفسير سورة الكهف - الآية: 108
(خالدين فيها لا يبغون عنها حولاً"108")
وخلود النعيم في الآخرة يميزه عن نعيم الدنيا مهما سما، كما أن نعيم الدنيا يأتي على قدر تصورنا في النعيم وعلى حسب قدراتنا، وحتى إن بلغنا القمة في التنعم في الدنيا فإننا على خوف دائم من زواله، فإما أن يتركك النعيم، وإما أن تتركه، وأما في الجنة فالنعمة خالدة لا مقطوعة ولا ممنوعة، وأنت مخلد فيها فلن تتركك النعمة ولن تتركها.
لذلك يقول تعالى بعدها:
{لا يبغون عنها حولاً "108"}
(سورة الكهف)
أي: لا يطلبون تحولهم عنها إلى غيرها، لأنه لا يتصور في النعيم أعلى من ذلك.
ومعلوم أن الإنسان لديه طموحات ترفيهية، فكلما نال خيراً تطلع إلى أعلى منه، وكلما حاز متعة ابتغى أكثر منها، هذا في الدنيا أما في الآخرة فالأمر مختلف، وإلا فكيف يطلب نعيماً أعلى من الجنة الذي قال الله عنه:
{كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابهاً .. "25"}
(سورة البقرة)
أي: كلما رزقهم الله ثمرة أتتهم أخرى فقالوا: لقد رزقنا مثلهم من قبل، وظنوها كسابقتها، لكنها ليست كسابقتها بل بطعم جديد مختلف، وإن كانت نفس الثمرة، ذلك لأن قدرة الأسباب محدودة، أما قدرة المسبب فليست محدودة.
والحق سبحانه وتعالى قادر على أن يخرج لك الفاكهة الواحدة على ألف لون وألف طعم؛ لأن كمالاته تعالى لا تتناهى في قدرتها؛ لذلك يقول تعالى:
{وأتوا به متشابهاً .. "25"}
(سورة البقرة)
فالثمر واحد متشابه، أما الطعم فمختلف.
والإنسان منا ليشق طريقه في الحياة يظل يتعلم، ليأخذ شهادة مثلاً أو يتعلم مهنة، ويظل في تعب ومشقة ما يقرب من خمسة وعشرين عاماً من عمره أملاً في أن يعيش باقي حياته المظنونة مرتاحاً هانئاً، وهب أنك ستعيش باقي حياتك في راحة، فكم سيكون الباقي منها؟
أما الراحة الأبدية في الآخرة فهي زمن لا نهاية له، ونعيم خالد لا ينتهي، ففي أي شيء يطمع الإنسان بعد هذا كله؟ وإلى أي شيء يطمح؟
لذلك قال تعالى بعدها:
(قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً "109")
لأن قدرته تعالى لا حدود لها، ومادامت قدرته لا حدود لها فالمقدورات أيضاً لا حدود لها؛ لذلك لو كان البحر مداداً أي: حبراً يكتب به كلمات الله التي هي (كن) التي تبرز المقدورات ما كان كافياً لكلمات الله
{ولو جئنا بمثله مدداً "109"}
(سورة الكهف)
ونحن نقول مثلاً عن السلعة الجيدة: لا يستطيع المصنع أن يخرج أحسن من هذه، أما صنعة الله فلا تقف عند حد؛ لأن المصنع يعالج الأشياء، أما الحق ـ تبارك وتعالى ـ فيصنعها بكلمة كن؛ لذلك نجد في أرقى فنادق الدنيا أقصى ما توصل إليه العلم في خدمة البشر أن تضغط على زر معين، فيخرج لك ما تريد من طعام أو شراب.
وهذه الأشياء بلا شك معدة ومجهزة مسبقاً، فقط يتم استدعاؤها بالضغط على زر خاص بكل نوع، لكن هل يوجد نعيم في الدنيا يحضر لك ما تريد بمجرد أن يخطر على بالك؟ إذن: فنعيم الدنيا له حدود ينتهي عندها. لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى:
{حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون "24"}
(سورة يونس)
وكأن الحق سبحانه يقول لنا: لقد استنفدتم وسائلكم في الدنيا وبلغتم أقصى ما يمكن من متعها وزينتها، فتعالوا إلى ما أعددته أنا لكم، اتركوا ما كنتم فيه من أسباب الله، وتعالوا عيشوا بالله، كنتم في عالم الأسباب فتعالوا إلى المسبب.
وإن كان الحق سبحانه قد تكلم في هذه الآية عن المداد الذي تكتب به كلمات الله، فقد تكلم عن الأقلام التي يكتب بها في آية أخرى أكثر تفصيلاً لهذه المسألة، فقال تعالى:
{ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله .. "27"}
(سورة لقمان)
ونقف هنا عند دقة البيان القرآني، فلو تصورنا ما في الأرض من شجر أقلام، مع ما يتميز به الشجر من تجدد مستمر، وتكرر دائم يجعل من الأشجار ثروة لا حصر لها ولا تنتهي، وتصورنا ماء البحر مداداً يكتب به إلا أن ماء البحر منذ خلقه الله تعالى محدود ثابت لا يزيد ولا ينقص.
لذلك لما كان الشجر يتجدد ويتكرر، والبحر ماؤه ثابت لا يزيد. قال سبحانه:
{والبحر يمده من بعده سبعة أبحرٍ.. "27"}
(سورة لقمان)
ليتناسب تزايد الماء مع تزايد الشجر، والمراد سبعة أمثاله، واختار هذا العدد بالذات؛ لأنه منتهى العدد عند العرب.
وقد أوضح لنا العلم دورة الماء في الطبيعة، ومنها نعلم أن كمية الماء في الأرض ثابتة لا تزيد؛ لأن ما يتم استهلاكه من الماء يتبخر ويعود من جديد فالإنسان مثلاً لو شرب طيلة عمره مائة طن من الماء، فاحسب ما يخرج منه من بول وعرق وفضلات في عملية الإخراج تجدها نفس الكمية التي شربها، وقد تبخرت وأخذت دورتها من جديد؛ لذلك يقولون: رب شربة ماء شربها من آدم الملايين. ثم يقول الحق سبحانه