الكتكوت الحزين



ظل الكتكوت يسير مرارا وقد بدا عليه الهم والتفكير غافلا عن بهجة الشمس، عازفا عن الحَب والماء.. وفي النهاية اتجه لأمه التي كانت تنقر الحب في رضا قائلا:
- هذه المرأة التي تجلب لنا الطعام وتنظف المكان، لماذا تفعل هذا يا أمي؟


نظرت له الدجاجة في دهشة، ولوهلة لم تستطع الإجابة.. بعد قليل قالت متلعثمة:
- لم أفكر في هذا من قبل.. أعتقد أنها طيبة وتحبنا.

بدا الكتكوت غير مقتنع بتلك الإجابة.. وحينما هم بالاعتراض وجد أباه الديك يرفس أمه فمضت ترفرف بجناحيها وتولول صارخة.. قال الديك في عظمة:
- ماذا تقول هذه المخرفة؟.. إنها تفعل ذلك من أجلي أنا طبعا.. لأنني قوي وجميل ورائع..


نفش الديك ريشه وسار متبخترا فأقبلت الدجاجة تتودد إليه وتحوم حوله ونسيا كلاهما الكتكوت الحزين الذي راح يسير بلا انقطاع ممعنا في التفكير قبل أن يعود لأمه مرة أخرى.

- ماما.. -قال الكتكوت مرة أخرى- ألم تلاحظي أن هناك دجاجة تختفي كل بضعة أيام؟
- ربما ذهبت هنا أو هناك وستعود، قالت الدجاجة الأم في صبر.
- الدجاجة التي تذهب لا تعود أبدا، قالها الكتكوت في إصرار. تحملها المرأة من جناحيها وتمضي بها إلى المجهول.. بعدها يرتفع صياح الدجاجة كأن مكروها يقع بها.
- ماذا يقول هذا الأحمق؟ تساءل الديك مهددا بعرفه الأحمر.
- لا شيء، قالت الدجاجة في ارتباك وهي تحمي صغيرها بجناحيها.


أحنى الكتكوت رأسه في حزن وقال بخفوت:
- أعتقد أنهم يطعموننا من أجل أن يذبحوننا فيما بعد..
- نظر له الديك في غضب، ثم نفش ريشه، فبدا تمثالا حيا من القوة والعظمة والبهاء.. هرولت الدجاجة مبتعدة وقد اصفرّ لونها من الرعب.. ابني أحمق، قالتها الدجاجة في سرها، يترك كل هذا الحب والماء والشمس ويشغل نفسه بهذه الأشياء العبيطة ويتعرض لغضبة الديك؟


^

^
^
^
حمدا لله.. إن عمري أربع وأربعون سنة وهذا معناه أن فرصة بقائي على قيد الحياة وقت الهول القادم ضئيلة جدا خاصة أنني من أسرة لم تشتهر أبدا بطول العمر. إن السيناريو الذي أتوقعه في العقود المقبلة مخيف إلى حد يصعب مواجهته والتفكير فيه ناهيك عن الاستعداد له..

في قصة مروعة من قصص الخيال العلمي "أرض العظايا" للكاتب الموهوب د."أحمد خالد توفيق" يحدثنا فيها عن مستقبل العرب بعد مائة عام تقريبا.. الرواية تقع أحداثها في الشرق المسلم حينما تنفد موارده.. لقد جاء الغرب المتقدم ببوارجه ومشاة أسطوله ومفكريه لتلك البقعة التي تتمتع بعبقرية الجغرافيا وهذه البحيرات اللا نهائية من النفط في باطنه.. كنا غارقين في ظلام الجهل والخرافة عاجزين عن استخراجه أو حتى معرفة قيمته حينما جاءوا..

فيما بعد قال الملك "عبد العزيز آل سعود" لمن اقترح قطع إمداده ردا على غصب العصابات الصهيونية لفلسطين:
- كان النفط تحت رمال صحرائنا ولم نكن نعلم بوجوده.. وجاءوا هم فاستخرجوه لنا ولم نكن نتمكن من هذا، ثم أعطونا نصيبنا وأخذوا نصيبهم.. فكيف تتكلم الآن عن قطع إمداده؟


............ ......... ......... ......... ...</SPAN>

وتمضي الأيام ويتدفق النفط بحارا بغير حساب على القلة المختارة، ويتدفق معها المال الأسطوري.. بلايين البلايين من الأوراق الخضراء الفاتنة التي تبتاع كل شيء وتحمل قوة في ذاتها وكأنها قلادة مسحورة أو جني المصباح.. يجثو الغرب المتقدم متملقا مداهنا عارضا بضاعته ونساءه فلم يكذبوا خبرا.. وبلهفة المحروم عاشوا في جو من الترف الأسطوري الذي ستستمع إليه الأجيال القادمة مثلما نستمع نحن الآن لأساطير ألف ليلة وليلة..

عاشوا منعمين في أبراجهم غافلين عن حشود التعساء التي تضطرب حول القصور الملعونة متسولين نصيبهم من الفتات غافلين عن أن الأرض تدور حول نفسها وحول الشمس فيتعاقب الليل والنهار.. لم يكن ممكنا -مهما فعلوا- أن تطلب من الجرم الهائل أن يترفق بنا ويكف عن الدوران.. نفد النفط مثلما ينفد كل شيء آخر.. ولم يعد لدى العرب ما يقدمونه للغرب فحمل عصاه ورحل عائدا لبلاده قائلين إنه لا يوجد شيء مجاني في هذا العالم.
وجد العرب أنفسهم بلا أدنى موارد.. تقول الرواية إن الحياة صارت مستحيلة خصوصا إذا تذكرنا أن الغرب يصنع لنا السلاح والسيارة والقلم الرصاص.
وأسقط في أيديهم عاجزين عن الفعل..


^

^
^
غضب.. الكثير من الغضب.. من الطبيعي أن يتذكر الشرق نفطهم المسلوب بأرخص الأثمان.. التقدم الغربي الذي لم يكن ممكنا لولا هذا النفط الرخيص..
موجات متتالية من الهجرة غير القانونية وكثير من أعمال العنف والقلاقل.. لن ترحلوا وتتركونا بعد أن سلبتمونا كل شيء.. هذا المنطق طبعا لا يناسب البرجماتيين.. ويكون الرد حاسما: القصف العنيف المركز لعواصم العرب الذين صاروا عبئا عليهم.. يتطور القصف بطبيعة الأمور إلى حد الإبادة الشاملة لجنس العرب.. يتحولون بالتدريج إلى ما يشبه الزواحف المنقرضة ومن هنا يأتي اسم الرواية: أرض العظايا أي الزواحف.


^

^
^
ليس مهما كيف انتهت الرواية.. المهم أنها أشبه بنبوءة بما ينتظرنا إذا استمر الحال على ما هو عليه.. لقد أباد الغزاة البيض منذ بضعة مئات من السنين ملايين عدة من سكان أمريكا الأصليين يصل أعدادهم في تقدير البعض إلى خمسين مليونا.. وهذا ليس مستغربا إذا تذكرنا أن أمريكا لم تكن أبدا بلدا وإنما قارة كاملة.. قارتان إذا شئنا الدقة.

كانوا يملكون السلاح القادر على إبادة خصومهم مهما توافر حظهم من الشجاعة.. حدث هذا أيضا في تخوم آسيا وأدغال إفريقيا.. شعوب كاملة اندثرت أو كادت.. وكلهم كانوا يحبون أنفسهم مثلنا ويخالون زوالهم مستحيلا.. قديما قالوا إن الكثرة تغلب الشجاعة واليوم تأكد أن التكنولوجيا تغلب الاثنين.

لست من المؤمنين بأن التاريخ مؤامرة متصلة.. وتضحكني هذه الصورة المفتعلة لوجود نقابة تضم المتآمرين على الإسلام والذين لا يجدون شيئا آخر يفعلونه طيلة اليوم، ولكني في الوقت نفسه أؤمن بوجود مصالح غالبة لإمبراطوريات عظمى يبذل من أجلها النفيس والغالي ويدبر لها بحنكة وصبر.. خصوصا وكل حكام العالم يعملون بدأب من أجل شعوبهم فيما عدا حكامنا الذين يعملون أيضا في دأب ولكن ضد شعوبهم.


............ ......... ......... ......... ...

الكل يعلم أن النفط في مصر في طريقه إلى النفاد فكيف ستسير كل هذه السيارات المتلاحمة في طرقات القاهرة بعد عشرين عاما فقط؟ هل ستصبح مجرد صفيح بارد خاصة أنه من المتوقع أن يقفز سعر النفط إلى مستويات لا يمكن التنبؤ بآثارها؟ وإذا كانت الدراجات بديلا صحيا صديقا للبيئة فماذا عن تشغيل المصانع وإنارة الطرقات نحن الذين لا نملك أي بديل محتمل للطاقة بعد أن وأدنا مشروع الطاقة النووية بغلظة البدوي القديم الذي كان يئد وليدته النفيسة؟

نعم.. محظوظ أنا لأن أيامي على ظهر هذا الكوكب صارت معدودة وقد أوشكت أجيالنا القادمة أن تصطلي بنار المحن الكبرى.. كان الله في عونها وفي عون كل كتكوت تعس عزف عن الحب والماء وبهجة الشمس وشعر بالغربة المنيعة من بلاهة دجاجة غافلة وغرور ديك متبختر.


د.أيمن محمد الجندي

كالعاده دعوه للمناقشه