جمهورية مصر العربية
الدولة - الشعب - مصر و العرب
خلال العقد الأخير من القرن التاسع عشر لم تكن " العروبة " مصطلحاً مستخدماً في الفكر السياسي في مصر أو في محيط البلدان العربية المجاورة في المشرق و المغرب . كما لم تكن تشكل منهجاً في التوجهات السياسية للحكومات القائمة آنذاك . و لكن كانت العروبة تياراً فكرياً بدأ يحفر مجراه في منتصف سبعينات القرن التاسع عشر بجهود نخبة من مثقفي الشام لمواجهة سيطرة الحكومة العثمانية في البلاد . و قد لاقت هذه الجهود بعض التأييد و قدراً من الحماس على مستويات مختلفة ، و بدا ذلك واضحاً في المنتديات الفكرية و الخطب و القصائد الشعرية ، و تكون الجمعيات التي تدعو إلى تحقيق " العروبة " عملياً بالتخلص من الحكم التركي و نقل السلطة للعرب .
غير أن السلطات التركية الحاكمة في بلاد الشام لم تقف مكتوفة الأيدي أمام محاولات الانقضاض عليها ، و من ثم بدأت تلاحق كل العناصر المؤمنة بالعروبة فلم يجد هؤلاء أمامهم سوى الفرار من البلاد إلى مصر .. لماذا ؟
كانت مصر منذ انفرد بها محمد علي باشا ( 1805 ) بعيدة عن الحكم العثماني المباشر ، و تأكد ذلك بوقوعها تحت الاحتلال البريطاني ( 1882 ) . و من هنا شعر دعاة العروبة الشوام بالأمان على حياتهم و على أفكارهم و هم في مصر .
و من ناحية أخرى لم يكن مصطلح " العالم العربي " أو " الوطن العربي " قد ظهر في أفق الحياة السياسية أو الثقافية في مصر أو غيرها من بلدان المنطقة ، و كانت الكلمة المستخدمة " بلاد المشرق " تعبيراً عن سوريا و العراق ، و بلاد الحجاز و بلاد الجزيرة العربية و بلاد المغرب و سودان وادي النيل ، و البلاد المجاورة للتعبير عن درجة القرابة بين مصر و تلك البلاد حيث كان يقال " مصر و جيرانها " .
و الحقيقة أن بلدان " العالم العربي " في العقد الأخير من القرن التاسع عشر كانت تعبيراً جغرافياً أكثر منه سياسياً ، و تعبيراً ثقافياً أكثر منه تعبيراً عن مصالح مادية معينة إذ كان كلها نهباً لأطماع القوى الكبرى . ففي المغرب سقطت الجزائر في يد فرنسا ( 1830 ) و كذا تونس ( 1881 ) ، و وقع السودان في قبضة انجلترا ، و لم يبقى إلا مراكش التي احتلتها فرنسا في 1913، و ليبيا التي احتلتها إيطاليا في 1911 . و في المشرق كان العراق و سوريا الكبرى ( سوريا ولبنان والأردن وفلسطين حالياً ) تحت الحكم العثماني المباشر . و في الجزيرة العربية كانت إمارات و مشيخات ساحل عمان من الكويت شمالاً إلى مسقط جنوباً قد خضعت للنفوذ البريطاني المباشر من خلال اتفاقيات حماية . و لم يكن هناك سوى اليمن تحت حكم الإمامة و الحجاز مستقلاً تحت قيادة أشراف مكة بعيداً عن النفوذ الأجنبي المباشر .
و كانت علاقات مصر بتلك البلدان على اختلاف أوضاعها منذ العقد الأخير من القرن التاسع عشر علاقات ثقافية و تجارية في المقام الأول . و كان الأزهر هو مركز تلك الاتصالات و بؤرة نقل الأفكار عبر العلماء و الدارسين ، و كان طريق الحج مركزاً للتعارف بين الشعوب ، كما كانت الأسواق التجارية هي المجال الأوسع لتدعيم تلك الاتصالات .
و عندا استقر المقام بأنصار الفكرة العربية في مصر بعد هروبهم من الاضطهاد التركي في مطلع القرن العشرين ، و بدأوا يعملون على نشر أفكارهم و توسيع نطاق أنصارهم و ذلك من خلال إصدار الصحف و الكتابة فيها و نشر المطبوعات و إلقاء المحاضرات العامة في المنتديات و الجمعيات الأدبية . لكن الفكرة العربية واجهت تحديات فكرية مماثلة إذ كان المناخ الثقافي في مصر يحمل في تياراته أكثر من فكرة و أكثر من رابطة لتحديد الشخصية المصرية و هويتها القومية ، و كل منها يتعارض مع الآخر و يتناقض معه .. فهناك الرابطة الشرقية و التي تعني وحدة بلاد الشرق ضد الغرب الأوربي ، و هناك الرابطة الإسلامية المنبثقة عن حركة الجامعة الإسلامية التي نادى بها الأفغاني و تبناها السلطان عبد الحميد لمواجهة الغرب المسيحي الأوربي أيضاً و مثلت عند مصطفى كامل و أنصاره الرابطة العثمانية ، و هناك رابطة البحر المتوسط و قوامها الثقافة اليونانية الرومانية القديمة ، و هناك الفرعونية و التي اختلطت بالقبطية كفكرة مصرية محلية في مواجهة كل تلك الأفكار .
و هكذا أصبح المسرح الثقافي السياسي في مصر يعرض كل الأفكار و يحاول أنصار كل فكرة اكتساب أكبر مساحة من التأييد على حساب الأفكار الأخرى . و مع هذا كان رد الفعل في مصر أمام الحوادث الجسام التي تقع في بلدان العالم العربي ينطلق من الرابطة الإسلامية أحياناً و العربية أحياناً أخرى ، و مشاعر الجيرة في أحيان ثالثة . و قد بدا ذلك ,واضحا في موجة الغضب التي عمت المصريين ضد احتلال إيطاليا لطرابلس ( 1911 ) باعتبارها بلداً مسلماً ، على حين شاركت المدفعية المصرية في ثورة الشريف حسين ( 1916 ) ضد الحكم التركي في الشام انطلاقاً من العروبة . أما ما حدث في فلسطين منذ وعد بلفور ( 1917 ) و إخضاع فلسطين للانتداب البريطاني ( 1922 ) و ما تلا ذلك فقد اختلطت فيه كل مشاعر العروبة و السلام و الجيرة .
و لم يقتصر الأمر على التجمعات الشعبية و النخبة المثقفة عروبياً أو إسلامياً، بل أن الحكومات المصرية بدأت تأخذ مواقف سياسية في اتجاه العروبة بخطى متقدمة منذ وزارة علي ماهر باشا في 1939 – 1941 و استعانته بعبد الرحمن عزام و عزيز علي المصري . و كانت الجامعة العربية التي أعلنت كمنظمة إقليمية في 1945 هي التي حسمت توجهات مصر العربية في مواجهة كل الأفكار التي كانت على الساحة ، إذ اشتركت الحكومة المصرية برئاسة مصطفى النحاس باشا في الدعوة لعقد الاجتماعات التمهيدية و التوقيع على ميثاق الجامعة ، و تولت رئاستها تقديراً لمصر ، شخصيات مصرية : عبد الرحمن عزام / عبد الخالق حسونة / محمود رياض و أخيراً عصمت عبد المجيد .
و منذ ذلك التاريخ و سياسة مصر العربية تتقدم بخطى ثابتة نحو تحقيق الحلم العربي القديم في إقامة دولة عربية واحدة من المحيط للخليج . و كانت قضية فلسطين هي محور نشاط مصر العربي قبيل الجامعة و منذ ثورة 1936 و مؤتمر المائدة المستديرة بلندن 1939 و إعلان الحرب على إسرائيل . كما بذلت جهودها من قبل خلال عضويتها بعصبة الأمم في تأييد إلغاء الانتداب الفرنسي على سوريا و لبنان و حصولهما على الاستقلال ( 1944 ) .
و إذا كان اشتراك مصر في تأسيس الجامعة العربية قد حسم توجهات السياسة المصرية لصالح الفكرة العربية ، فإن ثورة يوليو 1952 بقيادة جمال عبد الناصر جعلت العروبة نسيجاً عضوياً في الجسد المصري ، و وضعت في سلسلة الأهداف الاستراتيجية جعل البلاد العربية كلها جسداً واحداً .. في دولة واحدة .. ذات علم واحد و جيش واحد و نشيد واحد و على قلب واحد .
و لكن تحقيق الوحدة العربية بهذا المعنى كان يتطلب نسيجاً واحداً متجانساً في درجات الحكم السياسي و التوجه الاقتصادي . و كانت المشكلة القائمة أن البلدان العربية قد انتهت عبر رحلة الاستعمار الطويلة و الخضوع لمختلف الثقافات إلى عدة تكوينات غير متجانسة تمثل بقعاً متناثرة الألوان في الثوب و الواحد و غير منسجمة الأذواق .. و بناء على هذا سعت السياسة المصرية بعد ثورة يوليو 1952 نحو إشاعة نموذجها في التحرر كنوع من تقريب الأجزاء لتكون كلاً واحداً ، و ليصبح الثوب العربي نسيجاً متجانساً اقتصادياً و سياسياً ، و يستعيد العرب مجدهم الغابر و يصبحوا قوة عالمية يعمل لها حساب خاصة أن الأمة العربية تملك المقومات المادية بوجود المصادر الطبيعية المتنوعة و أخطرها النفط ، و كذا مصادر القوة الروحية فبلادها مهبط الوحي و أرض الرسل و الأنبياء .
و على هذا لم تتأخر مصر منذ الخمسينات عن القيام بدورها العربي و واجبها الإقليمي في حماية الثورة و الثروة في بلاد العرب في المشرق و المغرب و الجنوب و تكوين القافلة العربية .. و كانت البداية الاعتراف بحق الشعب السوداني في تقرير مصيره و استقلاله استقلالاً كاملاً و إلغاء مفهوم السيادة المصرية على السودان . ثم كانت الجزائر في ثورتها في نوفمبر 1954 ضد الوجود الفرنسي حيث لم تتوقف عن دعم جبهة التحرير الوطنية مادياً و أدبياً حتى تم توقيع اتفاقية الجلاء في إيفان ( 1962 ) و إعلان الجمهورية . و لم تترك الشعب التونسي بقيادة الحبيب بو رقيبة و المغربي بقيادة الملك محمد الخامس إلا بعد الاستقلال عن النفوذ الفرنسي في 1956 .
ثم دخلت مصر الثورة في وحدة تامة مع سوريا تحت زعامة شكري القوتلي في 1958 تحقيقاً للحلم القديم الذي انطلق من سوريا في أواخر القرن الماضي . و أيدت ثورة شعب العراق في 1958 و حقه في إعلان الجمهورية ، و حمايتها للأرض اللبنانية من نزول القوات الأمريكية حتى لا يكون لبنان للاستعمار مقراً أو ممراً . و رغم فشل الوحدة بعد ثلاث سنوات ( 1961 ) إلا أن الحلم لم يسقط من اعتبار مصر العربية إذا استمرت في مشاوراتها و مباحثاتها للتوصل إلى الطريق المناسب لإقرار الوحدة .
ثم ما لبثت مصر الثورة أن استجابت لثورة الشعب اليمني ضد حكم الإمامة و لم تهدأ إلا بعد استقرار الحكم و إخراجه من ظلمات العصور الوسطى و وضعه على عتبات المدنية و التحديث .
ثم عاجت مصر الثورة تؤيد الشعب السوداني مرة أخرى عندما قام بثورة بقيادة جعفر النميري في مايو 1969 لتصحيح مسار الاستقلال و اعتبرتها مصر ثورة على طريق العروبة و الوحدة . و في سبتمبر من العام نفسه ( 1969 ) قامت ثورة الفاتح بقيادة معمر القذافي في ليبيا فوقفت مصر إلى جانبها خاصة أن هذه الثورة و ثورة السودان جاءتا في أعقاب هزيمة يونيو 1967 و انحسار المد العربي و من ثم اعتبرها عبد الناصر وقوداً جديداً لشعلة العروبة .
و هكذا مع نهاية الستينات كانت القافلة العربية المتجانسة قد اتسعت بانضمام فصائل متحررة سياسياً و اجتماعياً لتزيد من عزوة القبيلة العربية و من منعتها أمام الأعداء التقليديين . و في أواخر الستينات نفسها كانت شعلة الثورة العربية قد امتدت إلى الخليج العربي بتأثير شعار " نفط العرب للعرب " لذي صكه جمال عبد الناصر و قولته الشهيرة : على الاستعمار أن يحمل عصاه عل كتفه و يرحل . و ما أن هلت السبعينات حتى حصلت إمارات الخليج و مشيخاته على الاستقلال و انضمت إلى الجامعة العربية.
كانت الخمسينات و الستينات إذن هي فترة إعداد البيت العربي الواحد بجهود الثورة المصرية بزعامة جمال عبد الناصر . غير أن مشكلة فلسطين كانت و ما زالت تعتبر الاختبار الحقيقي لقوة الفكرة العربية و حقيقة الرابطة العربية . و لما كانت الجامعة العربية هي بيت العرب ، قد ثبت عجزها عن إيجاد موقف واحد ملزم ، نتيجة نصوص الميثاق ، فقد خرج عبد الناصر بفكرة عقد مؤتمرات القمة العربية بحضور الرؤساء و الزعماء العرب دون أن تحكمهم نصوص معينة صيغت في ظروف معينة . و كانت البداية في يناير 1964 لمواجهة خطط إسرائيل لتحويل مجرى نهر الأردن و قد أثبتت هذه السياسة فاعليتها حتى الآن حيث واصل السادات الطريق نفسه بل قد أصبح العرب يفضلون اجتماعات القمة على اجتماعات الجامعة العربية .
و كانت حرب أكتوبر 1973 التي أعلنها الرئيس السادات تجسيداً حقيقياً لتلك السياسة العربية حيث اجتمعت كلمة العرب لتحرير الأرض العربية من الاحتلال الإسرائيلي . و رغم أن مصر خرجت من دائرة الصراع المباشر مع إسرائيل بتوقيع اتفاقية السلام في 1979 فإنها لم تخرج من دائرة الأزمة العربية الإسرائيلية إذ لا تزال تقوم بالدور الأقوى في تحقيق الجلاء الإسرائيلي من باقي الأرض المحتلة و إقرار حقوق شعب فلسطين بإعلان الدولة من واقع الالتزام بالعروبة و المصير المشترك .
و كان طبيعياً أن الثورة المصرية التي ناضلت من أجل تحرير الشعوب العربية ، و كرهت أن تفرض الوحدة السياسية بالقوة ، و وقفت ضد العدوان الأجنبي على الأرض العربية .. أن ترفض وقوع العدوان بين الأشقاء ، و من هنا وقفت إلى جانب فلسطين في أزمة أيلول الأسود 1970 ، و وقفت إلى جانب شعب الكويت ضد العدوان العراقي ( أغسطس 1990 ) ، و تعمل جاهدة على التوصل لحل سلمي لجميع نزاعات الحدود داخل الوطن العربي الكبير اتقاء للحروب و توفيراً للجهد و المال للتنمية .
إن العروبة التي كانت تياراً فكرياً في أواخر القرن التاسع عشر أصبحت حقيقة سياسية و اجتماعية و قومية في النصف الثاني من القرن العشرين حيث أكدت الدول العربية دائماً على الانتماء العربي و بأنها الإطار الوحيد للنضال من أجل الاستقلال و تحقيق الرخاء و القوة .