رابين و المهندس :
و قد لقّب رئيس الحكومة الصهيونية آنذاك المجحوم إسحاق رابين يحيى عياش بالمهندس و أطلق عليه هذا اللقب في إحدى جلسات المداولة بين رابين و قادة أمنه للبحث في قضيةعياش و سبل الوصول إليه ، أبدى رابين - كما صرح جدعون عزرا رئيس جهاز الشاباك الأسبق - اهتماماً بكفاءات و قدرات عياش و أخذ يضفي عليه لقب المهندس بعد أن علم ما يمتلكه المهندس من إمكانيات ، و قد كان رابين يبدأ كلّ جلسات الحكومة و مجلسه المصغر و مجلس الأمن بالسؤال عن المهندس ، و قد صرح رابين بهذا اللقب للصحافة أكثر من مرة حتى غدا المقاتل الفلسطيني الفذ أسطورة ملحمية خالدة و شبحاً رهيباً يطارد الكيان الصهيوني لذلك لم يكن من قبيل المصادفة أن يختاره جميع الخبراء اليهود و الأجانب كرجل العام 1995 حيث أثّر على الكيان و حياته و مستقبله أكثر مما أثر رابين و حكومته و جيشه ، و قد بثّت الإذاعة و التلفزيون الصهيوني العديد من البرامج حول هذا الشبح الأسطورة .
جمعة الشهادة :
إنه يوم الجمعة 15 شعبان 1416هـ الموافق الخامس من كانون الثاني يناير 1996م التي لم تكن كأي جمعة فما أن أذاع تلفزيون العدو نبأ الاغتيال فاهتزت فلسطين بكلّ أرجائها و دبّت قشعريرة و سرى شعور حزين و حاولت القلوب الفزعة أن تكذّب أو تشكّك ، و اهتزت الكلمات في الحناجر حين أعلنت حماس توقّف عقل الفتى العاشق و سكنت نبضات قلبه .
فبكى كلّ شيء في فلسطين حتى كاد طوفان الدمع أن يغرق شوارع غزة و حارات نابلس و طولكرم و الخليل . و مرّ ليل الجمعة الباكية ثقيلاً على الجبال و الوديان و الناس ، ينما سكنت الأمواج في انتظارٍ حزين ، و في الصباح تراكض الباحثون عن وطن نحو رافات يعانقون جدران منزل المهندس متوعّدين بالثأر و مؤمّنين على دعاء أم يحيى (قلبي و ربي راضين عليك) ، و كم تمنى أولئك لو أنهم تشرّفوا بتشييعه أو على الأقل مشاهدة وجهه أو ملامسة كفه فيتعلمون كيف يضرب و كيف يصنع لنا الحياة .
و خرجت جماهير غزة الأبية في مسيرة لم تشهد لها فلسطين مثيلاً لتشييع المهندس و صار الشعب كله يحيى ، و صار يحيى الشعب كلّه فعظمة الشهادة و الإنجاز أبت أن يكون المهندس ابن رافات وحدها و لا ابن حماس دون غيرها ، فكما كان عمله و حياته لكلّ فلسطين من بحرها لنهرها جاء استشهاده ليملأ كل فلسطين بالأمل و الرجاء ، تماماً كالبرق سطوعاً ليست انطفاءته إلا ميلاداً للحياة
هكذا تكون الحبيبة والزوجة :
لا شك أن كلّ امرأة تتلقّى خبر جهاد زوجها بشيء من الخوف و الفزع في البداية و تبدأ الهواجس تصوّر لها زوجها و قد تحوّل إلى أشلاء متناثرة و لكن سرعان ما يتبدّد الفزع و يتحوّل إلى فخرٍ و شعور بالأمان و الطمأنينة لأن زوجها متعلّق بالله .. و حول ذلك تقول زوجة عياش: "منذ الأيام الأولى لحياتي الزوجية كان يأتي يحيى إلى المنزل و ملابسه متسخة بالوحل و التراب و عندما أسأله عن سبب ذلك ، فكان لا يردّ عليّ ، بل كان ينصحني أن لا أسأله عن شيء ، و فعلاً استجبت لنصيحته لأني على ثقة بأخلاقه و التزامه بمبادئ دينه حتى جاء اليوم الذي حاصر جيش الاحتلال المنزل ليعتقل يحيى ، و لكنه لم يكن في المنزل ، و عندما شعر أني خائفة كثيراً صرّح لي بطبيعة عمله و خيرني بين مواصلة طريق الجهاد أو الانفصال عنه .
أماعن أهم الأمور الأمنية التي أتقنتها زوجته فقالت : "يجب أن لا أسأل أين سيذهب زوجي أو من أين أتى لأن معرفتي بأي معلومات عن زوجي ستعرّض حياتي و زوجي للخطر خاصة أنني كثيراً ما تعرّضت للتحقيق من قبل المخابرات الصهيونية ، و أن لا أسأل عن أسماء الأخوة المجاهدين الذين يتردّدون لزيارة زوجي أو من أسكن في بيتهم و إنما أكتفي بمعرفة كنيتهم فقط و أن لا أتفوّه بأي كلمة و لو كانت مزحاً لأحد . حتى ولدي الصغير براء عندما كان يخرج ليلعب مع أولاد صاحب المنزل الذي يستضيفنا كان يعرّف نفسه باسم (أحمد) بالإضافة إلى التأكد من هوية من يحمل رسالة زوجي و أنها بخطّ زوجي حيث اعتاد عياش أن يرسل الرسائل بخطّ يده" . و أكدت عياش أنها ما زالت لغاية اليوم تحتفظ بجميع رسائل زوجها في مكان آمن يصعب على قوات الاحتلال و مخابراته العثور عليها رغم مرورسنوات على استشهاده .