قهوتنا على الانترنت
ابحث عن :  
النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: صرخات نور

  1. #1

    ملحوظة صرخات نور

    صرخات نور
    منذ أن تسللت الحياة إلى أنفاسه، وانهمرت الدموع من عينيه عند صرخة الميلاد، لم يكن وجه أمه هو أول
    ما استفاقت عليه تلك العينين البريئتين، بل كانت العتمة هي أول ما اصطدمت بهما،ليكون من قضاء الله
    وقدره أن يبتلى علي بحبيبتيه فيصبر على نعمة حرم منها، ويمضي طفولته بين أقرانه موظفاً حواسه
    الأخرى في استكشاف العالم الخارجي والتعرف عليه، حيث عوضه الله عنهما بفطنة وذكاء حاد كان محط
    أنظار المحيطين به.
    لطالما تعثرت القدمان وارتطم الجسد اللين بصلابة الأرض، إلا أن اليدين الصغيرتين ما تلبث أن تستجمع
    قواها لينهض الجسد من جديد وتواصل الخطوات الصغيرة دربها الطويل، فكانت العثرات تزيده قوة
    وصلابة، وتمنحه العزم على مواجهة الواقع الذي يعيشه والتكيف معه.
    لم تكن تلك الطفولة مختلفة عن سواها، فكان لها احتياجاتها المشابهة في كل مرحلة من مراحل تطورها
    النمائي بجوانبها الإجتماعية والعقلية كافة، بل كان لهذا الطفل السبق في القدرة على الحفظ والإستظهار
    للسور القرآنية منذ الصغر، ويرافق تلك الموهبة صوت رقيق عذب ينساب من حنجرة علي لتخشع الآذان
    المصغية إليه، وتلين القلوب لأعظم كلمات حين تخرج من فم طفل صغير دخل النور قلبه وعقله قبل أن
    يدخل عينيه.
    وهكذا ظل علي في مدرسته محط إعجاب أساتذته، يفتتح الإذاعة المدرسية كل صباح، ويكاد لا يخلو احتفال
    في المدرسة دون أن يكلل افتتاحه بآيات عطره يتلوها على مسامع الحضور، ولم يقتصر تفوقه على زملائه
    في هذا المجال فحسب، بل كان كذلك في المواد الدراسية، ناهيك عن لباقته في التعامل مع زملائه،ومساعدته
    لهم في حل بعض المسائل الرياضية التي قد تصعب عليهم، على الرغم من استخدامه لغة برايل كمعين على
    الدراسة، وذلك ما جعله ملتفاً بجمع من الأصحاب الذين علقت محبته في قلوبهم.
    كان طموحه لا يتوقف عند المرحلة الثانوية، بل امتدت نظرته الثاقبة إلى ما بعد المدرسة، ليتحقق حلمه في
    الدراسة الجامعية وفي التخصص الذي أحب، وبذلك انتقل إلى مجتمع آخر وبيئة جديدة تطلبت منه وقتاً
    للتكيف معها، فليس سهلاً على كفيف أن يتلقى تعليمه بين المبصرين إن لم يتحلى بروح المثابرة والجد في
    الدراسة، ولكنه أمر غير مستحيل على علي الذي بدأ بمضاعفة جهوده والتغلب على كل هاجس من شأنه
    إضعاف دافعيته.

    كانت عملية التنقل بالنسبة له عائقاً تغلب عليه بمثابرته على حضور المحاضرات ترافقه عصاه البيضاء
    مرشده ودليله لما حوله، وكما هو الحال في المدرسة، استمر بالتفوق بالمرحلة الجامعية، وكان ذلك بفضل
    الدعم المعنوي الذي تلقاه من أسرته التي غمرته بدفئها، فهيأت له الظروف المناسبة، وساعدته بالإنقضاض
    على كل عقباته، وتشجيعه المتواصل من أمه التي طالما أحبته وغرست فيه حب الحياة منذ الصغر.
    أما زملاؤه وأساتذته فكانوا أسرته الجامعية التي اعتبرته جزءاً من كيانها الذي قد يتخلخل دونه، لا رأفة على
    حاله كمعاق، ولكن لانتزاعه هذه المكانة بينهم لما عكسه من صورة مثالية عن الشاب الطموح، والطالب
    المجتهد الذي يحب جامعته وينتمي إليها.
    وما كان من جراء انسجامه في نسيج الحياة الجامعية، إلى أن أفضى ذلك عن حبه لإحدى الزميلات التي
    رآها بقلبه المبصر فعشقها كما يعشق قلب شاعر وجه البدر في ليلة ظلماء، فرأى فيها زوجته ورفيقة طريقه
    الطويل، ولكنه يتساءل في نفسه متردداً: >أيحق لكفيف أن يهوى حسناء مبصرة يتمناها كل شاب لجمالها
    وحسن خلقها؟ أليس من الأفضل لي أن أبحث عن كفيفة مثلي ترضى بوضعي الصحي وتبادلني المشاعر،
    فتاة تعرف معنى الإعاقة لأنها عاشتها وارتشفت من كأسها<؟
    لكن الأمر يبدو مختلفاً حين يبادله الطرف الآخر نفس المشاعر إن لم يكن أكثر، فيتبدد الظلام إلى نور،
    ويختار القلب المحب كفيفاً يفضله على كل زملاء الكلية، ليكون شريك حياة، هذا ما صارحته به ليلى بعد
    شهور طويلة من الزمالة الجامعية والتعاون الدراسي معه، ولعل هذه المشاعر قد أثارت استهجان زميلاتها،
    حين وصفنها بمن ترمي نفسها في حياة تعيسة، تتحول فيها إلى مجرد خادمة لشخص عاجز لا يقوى على
    قضاء أبسط حاجياته على حد قولهن فكيف له أن يمنحها الأمان الإجتماعي والعاطفي ويحقق لها
    الإستقلال الإقتصادي، ويكون أباً لأطفالها، يشاركها تربيتهم، ويكون لها عوناً في حياتها لا عالة عليها...؟
    بهذه الكلمات اللاذعة واجهتها زميلاتها، ولعل تحت هذه الكلمات شيئاً من المنطق، فليلى فتاة جميلة من عائلة
    محترمة قد تقدم لخطبتها أفضل الشبان، فلماذا تصر على ذلك الكفيف وتربط مصيرها بمستقبل مجهول؟..
    واكتملت دائرة المعارضة، وضاقت ليلي بالحيرة ومرارة المواجهة بين عاطفة يعتبرها الآخرون نزوة يجب
    التخلص منها، وبين الواقع الذي وجدت نفسها في مجابهة معه، فقد رفضت أسرتها وبشدة طلب علي الزواج
    منها، واستنكرت تلك الجرأة من كفيف جاء يتحسس طريق البيت باحثاً عن فتاة للزواج، فكان الرد قاسياً
    ذكّره بعينيه التي لم تبصر النور، وبعصاه التي ربما لم تقده إلى المكان المناسب.
    وعلى الرغم من مضايقات الأهل والمحيطين ونصحهم لها بالإبتعاد عنه، ظلت العلاقة تشتعل بين محبين
    جمعتهما روح واحدة، وأّلفت بينهما رابطة وجدانية لم تطفىء أوارها تعليقات الآخرين، وتتحرر ليلى من
    خجل الأنثى لحظات لتقول لهم: >إن هذه المشاعر ليست شفقة على معاق، إنه ليس ضعيفاً ليستحق الشفقة،


    إن كنتم ترونه معاقاً، فإنني أراه أقوى من زملائه المبصرين بروحه المتقدة الحماس، وعقله الو  ضاء، وفكره
    الذي ينم عن إنسانيته النبيلة التي لم تعطلها حاسة عن أداء رسالتها في الحياة، أراه ملهماً لي أستمد منه القوة
    وزوجاً مثالياً يشاركني المستقبل<.

    إلا أن كل هذه التبريرات قد عجزت عن إقناع الأسرة بزواج ليلى من علي
    . وبعد أن تخرجا من الجامعة
    تجاوز الأمر مجرد الإجحاف بحريتها في الزواج من الشاب الذي تحب، ليتعدى الأمر ذلك فترغمها الأسرة
    على الزواج من شاب آخر قد جاء لخطبتها، وحينها رفضت ليلى وغسلت الدموع مقلتيها حتى تورمت
    عيناها، وانعكس ذلك على وضعها النفسي، فساءت تغذيتها وقل نومها، حتى مرضت وهزل جسمها الذي
    أعياه التعب، ولزمت غرفتها لا تكلم أحداً من المحيطين.
    وأمام عنادها وتبريراتها، وبعد تدخل أحد الأقارب بعد أن استمر وضعها الصحي في تراجع، وافقت الأسرة
    على مضض من زواجها من علي، ولكن مع تحميلها كامل المسؤولية ولومها على ذلك الزواج، ولم
    يخل الأمر من مظاهر الحزن التي سادت أجواء الفرح، والتي أهمها عدم حضور والدتها مراسم العرس.
    هي أمنية حققتها ليلى بعد طول عناء، وكانت بلا شك غالية الثمن، لكنها مستعدة لتحمل نتائج قرارها
    وتداعياته على علاقاتها الإجتماعية، فالمحبة شيء وواقع الزواج شيء آخر.
    كانت البداية صعبةً عليها حين كانت تخرج مع زوجها الكفيف خارج البيت، تقود السيارة له، وتزور معه
    الأقارب والأصحاب، وتتسوق معه، تصف له كل شيء وتشركه في تصور كل ما تقع عليه عيناها، وله أن
    يسبح في فضاءات خياله لإكمال الصورة التي تشاهدها زوجته. كان يقول لها دائماً: >إني أرى كل ما تقع
    عليه عيناك، فأكره ما تكرهين وأحب ما تحبين<. تلك هي الأرواح المجندة حين تجتمع في جسدين منفصلين
    فيكفي أن تكون في أحدهما حاسة لتزرعها في الجسد الآخر.
    عاشت معه زوجاً مثالياً، أعطاها كل ما يملك، وفي كل يوم تمضيه معه يتكشف لها أن العيش مع من تحب،
    هو أسمى من حاسة قد عطلتها حكمة الله، لتنبت مكانها حواس أخرى لا يدرك كنهها سواها من البشر.
    ويتكلل هذا الزواج المبارك بعد مضي أولى سنواته بالمولود البكر الذي طالما حلمت ليلى به، فوجدته مستلقياً
    بجانبها بعد أن استفاقت من آلام المخاض، وكم كانت فرحتها الكبرى حين رأت والدتها تدخل عليها، تسبقها
    بدموع عينيها، فتعانقها لتغسل آلاماً مضت إلى غير رجعه، وفي غمرة مشاعر الأمومة تقاطعهما نور التي
    بدأت تصرخ لتدوي صرختها بين أروقة المستشفى، تتوجه إليها جدتها تحتضنها... تضمها.. تقبل نوراً
    أشرق من عينيها، تمتزج الدموع معاً لترسم لوحة تراجيدية يكمل معالمها دخول علي للمشهد، ترتسم
    ابتسامته على وجهه الوضاء كعادته، لم تحجب نظارته السوداء بصيرته النافذة التي كانت سر نجاحه، يسمع
    تمتمات في الغرفة فيقول: هذه رائحة العمة، كم انتظرت هذا اللقاء منذ زمن.
    ويستدير الوجه المغسول صوبه


    .. تخرج أصوا ٌ ت من حنجرة خجولة، تعتذر دموعها لسنة من الفراق، فتكسر
    صرخة نور المشهد مرة أخرى، وتتلقف الدفء من صدر أمها، وتبدأ رحلتها بلا عتمة، في كنف أبوين جمع
    كل منهما قوة المحبة والإيمان بالطرف الآخر، ولم يفرقهما ضعف الإعاقة <<





  2. #2
    تاريخ التسجيل
    13 - 4 - 2010
    ساكن في
    القاهره
    العمر
    48
    المشاركات
    32,835
    النوع : ذكر Egypt

    افتراضي

    لروعة وتميز
    هذا
    الشدو الراقى

    والأنيق كصاحبته
    سأعجز عن التعبير
    عن إعجابى
    بمواضع جماله
    ولن ترقى كلماتى
    أبدا
    إلى قمته
    وعلوه
    انجى
    لكى خالص تقديرى

  3. #3

    افتراضي

    تسلم الايادى على الرد الجميل

 

 

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • مش هتقدر تضيف مواضيع جديده
  • مش هتقدر ترد على المواضيع
  • مش هتقدر ترفع ملفات
  • مش هتقدر تعدل مشاركاتك
  •  
جميع الحقوق محفوظة لمنتديات مصراوي كافيه 2010 ©