قهوتنا على الانترنت
ابحث عن :  
النتائج 1 إلى 3 من 3
  1. #1

    ملحوظة عائشة رغم الموت

    عائشة رغم الموت

    أمه التي وضعته هي أقرب الناس إليه وأكثرهم معرفة به، أوجد الله بينهما علاقة حميمة لا انفصام لها، وكأن
    كل منهما قد خلق للآخر، والده الذي لم يعش معهما طويلاً، قضى نحبه فجأة في حادث مؤلم، حفر جرحاً
    غائراً في قلب زوجته وسقاها من كأس المر مبكراً ليحولها إلى أرملة في مقتبل العمر، ويحمل هذا الحادث
    على كاهلها مسؤولية ثقيلة لتكمل مشوارها برفقة ولدها أحمد بعد أن كان الزوج قد تقاسم معها جزءاً من
    رحلة العلاج والمعاناة، امتدت سنتين، أمضياها متنقلين مع طفلهما الوحيد بين عيادات الأطباء والمستشفيات.
    وبعد فجيعتها الكبرى بزوجها، ها هي الآن قد استسلمت لقدر بات محتوماً عليها، يتسلل إليها ليفتك يوماً بعد
    يوم بجمالها وأنوثتها، فكان نصيبها من هذا القدر إمرأة ترملت مبكراً وولد وحيد يعاني من شلل رباعي في
    أطرافه، معتمد كلياً عليها، لا تقدر على مجافاته، فهو طعامها الذي تأكله وشربة مائها وأنفاسها الباقية في
    هذه الحياة.
    تميز أحمد بفطنته وذكائه وحساسيته الانفعالية ورابطته الوجدانية مع أمه التي لم يعرف سواها، فرغم أقاربه
    من جهة الأم والأب الذين يزورونهم من حين لآخر، إلا أنه لا يرى فيهم كلهم ما يراه في أمه وحدها، فهي
    الكلمة التي يتقنها أكثر من بقية الكلمات التي يحاول نطقها فيتشوه معظمها أمام حالة الشلل التي يعانيها، إلا
    كلمة (ماما) التي يعبربها عن فرحه وحزنه وحاجاته وكل انفعالاته.
    لولا الصبر الذي يلقيه الله على عباده المكروبين والايمان الذي يسكن قلوبهم، لولاهما لما استطاعت عائشة
    الصمود في وجه هذه الظروف القاسية، فقد كانا زادها في رحلتها الكؤود، فعندما يرمي الله بصبره على أحد
    فليس غريباً أن يتحول الألم إلى سعادة، لا يستشعرها إلا من يعيش لحظاتها.
    عندما يتكلم أحمد، هي المترجمة الوحيدة للغته القصيرة المقتضبة، والتي تشترك فيها تعبيرات وجهه ويديه،
    وهي الوحيدة التي يستطيع أن ينقل لها أدق أحاسيسه ومشاعره، والقادرة الوحيدة أيضاً على ترجمتها إلى لغة
    منطوقة يفهما الآخرون.
    في ذات يوم جاءت إليها جارتها العجوز، وطرقت على مسامعها كلاماً لم يرق لها سماعه، قّلب مواجعها
    وأثار انفعالاتها:

    أنت لا زلت صغيرة وجميلة يا عائشة، ويجب أن تنتبهي لنفسك
    .

    (يثير فيها الكلام الاستغراب، فلابد أن له مغزى ما).

    ماذا تقصدين؟




    !

    نظرت الجارة نحو الصورة المعلقة على الحائط المقابل، مستعجلة الكشف عن جرح لم يلتئم بعد


    :

    الله يرحمه، كان نعم الزوج، لكنه تركك فجأة وحيدة في مواجهة هذه الحياة الصعبة


    .


    تنفست بعمق، مسترجعة ذكريات مولمة، وانطلق من ثغرها زفير بارد محبوس في الصدر، تعتصر يداها

    منديلاً أبيض، لا تنفك تحمله.
    وتحاول الجارة تغطية الجرح بضمادة جديدة، تومىء من خلالها إلى انتهاء مرحلة صعبة، والإعلان عن بدء
    أخرى جميلة، لا تزال تنتظر الأرملة الصغيرة.
    يجب أن تنسي ما مضى يا عائشة، وتبدأين حياة جديدة، يجب أن تنزعي هذا السواد عن جسدك، ما
    مضى ذهب وانقضى، لا زالت أمامك الحياة طويلة لتعيشي لحظات سعيدة.
    وتفكر عائشة بكلمات هذه المرأة التي تغويها بنسيان زوجها الذي أحبته، وكأنها تحثها على التخلي عن عهد
    قطعته على نفسها، أو قيمة أصيلة تنتمي إليها.
    وتنتهي المرحلة التمهيدية بمفاجأة أعدتها العجوز لعائشة، لتعلن من خلالها عما جاءت من أجله صراحه،
    فتزج بعرضها السخي عليها قائلة:
    عندي لك زوج رائع، يبحث عن امرأة جميلة مثلك، لقد عاد من سفره بعد طول غياب في الخارج، وهو
    يملك الآن ثروة تمكنكما من العيش في نعيم إلى الأبد.
    وتميل العجوز نحو عائشة هامسة وكأنها تفشي لها سراً أو تسدي لها معروفاً




    :


    ... ولأنني أحبك وأريد مصلحتك، كنت أول من خطر ببالي، فلا تضيعي هذه الفرصة من بين يديك.

    لم تكن عائشة تتوقع هذه الكلمات التي سقطت عليها دفعة واحدة، وبسرعة




    .. نظرت إلى أحمد الذي تابع كل

    ما دار بين الامرأتين، فالتقت عيناه بعيني أمه، لا يخفي قلقاً قد انتابه، كمن ينتظر ردها السلبي على ما قالته

    العجوز.
    لا بأس عليه، بإمكانك وضعه في مؤسسة خاصة ترعاه وتعتني به، وهذا كله على نفقة الدولة، نعم




    ..

    ولماذا فتحت هذه المؤسسات؟

    قالت ذلك المرأة العجوز، وهي لا تفكر في أن أحداً ثالثاً يسمع هذا الحوار، فجهلها بأحمد وبقدراته العقلية
    ومشاعره المرهفة، جعلها تتحدث بهذه الصراحة غير المحسوبة عواقبها.
    فكّري جيداً بما قلته لك ولن تندمي




    .. سأذهب الآن منتظرة قبولك، استودعك الله.

    تقبلها وتخرج، ويبدو أن إهمالها لأحمد لم يقتصر على فترة جلوسها في البيت وحديثها مع الأم، بل امتد إلى

    لحظات المغادرة حين نسيت أن تودعه.
    وبعد أن أغلقت عائشة الباب وراء جارتها وعادت إليه، كانت الدموع الخجولة تتسلل من عينيه، وقد لمست
    عتاباً منهما، فضمته بسرعة وأصابعها تغوص في شعره بلطف، تقبله تارة وتحتضنه تارة أخرى:





    لا، لا


    ... أحمد حبيبي، دعك من كلام هذه العجوز الشمطاء، لن أتخلى عنك مهما جرى، أنت حياتي، وكل


    ما أملك في هذه الدنيا، ولا أستطيع العيش بدونك، لا تفكر يوماً أن هناك من سيبعدني عنك.

    كانت تبكي ويبكي معها، يمد يده صوب وجهها محاولاً مسح دموعها، فتقبل يده الممدودة، وتضمه إلى
    نحرها من جديد، ليلتقط أنفاسه من دفئها، ويطمئن إلى جوارها.
    شعرت بالذنب في تلك اللحظات، فلماذا لم ترد فوراً على كلام تلك العجوز؟ أليس مجرد سكوتها يعد تفكيراً
    بعرضها السخي؟
    شكّل هذا الموقف نقطة مفصلية في علاقتهما التي تتوطد مع الزمن، فعائشة بعد اليوم لن تصغي لأية فكرة
    من أحد قد تبعدها عن ابنها، ولن يشغلها عن وحيدها مجرد التفكير بالزواج، وقد اتخذت قراراً بذلك، أعلنته
    للمحيطين وهي مقتنعة به.
    ظلت سعيدة معه وبه، تعد له الطعام الذي يشتهيه، وتستشيره قبل إعداده، يأكلان بملعقة واحدة ومن طبق
    واحد، تنام في غرفته لتبقى رفيقته في الليل والنهار، فلا تأكل حتى يأكل ولا تنام حتى يسبقها إلى ذلك،
    تنتقي له الملابس التي يحبها قبل أن تلبسه إياها، حريصة على أن يظهر بمظهر لائق ومرتب باستمرار،
    تغني له وهي تمسد شعره، وتتغزل بجماله إذا غسلت أو مسحت وجهه.
    كان أحمد يكبر، ويكبر معه حبها له، وتزداد علاقتهما الحميمة مع الأيام




    .. وقد شكل حجم جسده الذي بانت

    معالم البلوغ عليه متغيرات جديدة تفرضها آليات التعامل معه، فهناك فرق بين أحمد الطفل الصغير الذي

    حملته بحضنها وتنقلت به من مكان إلى مكان، وبين أحمد الشاب المتصلب الثقيل.
    فهناك أعباء جديدة تنتظرها، وهي الصاحبة الرفيقة له في تنقلاته على كرسيه المتحرك إلى المرافق
    الصحية وغرفة الطعام، وأي مكان آخر يرغب في الذهاب إليه.
    إلا أن هذه المتغيرات الجديدة لم تمنعها أن تكون هي ذات الأم التي أعطته حنانها مبكراً وعاهدته ألا تفارقه،
    ولا تتوانى عن خدمته مهما كلف ذلك من تعب ومشقة، وهو مدرك لكل ذلك، ويحاول عدم الإثقال عليها
    بطلباته قدر الامكان، فتصر على عدم إشعاره بأنه عبء عليها، بل أنها سعيدة بتلبية طلباته.
    لم يكن خروجها من البيت كثيراً لأجله، فإن أرادت المشاركة في مناسبة ما، يظل قلبها مشغولاً عليه، حيث
    تستأذنه قبل الذهاب، وتستسمحه إذا تأخرت عودتها.
    وبعد إيابها تتحدث إليه عن تفاصيل ما رأت وشاهدت، ومع من تحدثت، لدرجة أنه حفظ الآخرين الذين
    تتعامل معهم في حياتها اليومية بأسمائهم وصفاتهم وأعمالهم، وأكثر ما كان يعرفه هو المجتمع النسوي الذي
    تحتك معه والدته، حتى أحداث الحي الذي يسكنون فيه، فهو يعرفها بتفاصيلها كأي شخص آخر، ويسأل أمه
    باستمرار عن بعض الناس وعن أخبارهم،من مات منهم ومن تزوج، ومن رزق بمولود ومن مرض...
    فكان الكثير منهم يبعث له بالتحية والسلام، فعلى الرغم من قلة خروجه من البيت إلا أنه معروف لأبناء
    الحي الذين يزورونه بين فترة وأخرى.
    عاش معها في أدق مشاعرها وانفعالاتها وفي حياتها اليومية، وأصبح جزءاً من فرحها وحزنها، فتشتكي إليه
    من هم يسكنها أو حزن يساورها، وفي كثير من الأحيان كان يبادرها بالسؤال عن وضعها ومشاعرها بلغته
    الخاصة، وحين تكون حزينة يحاول التخفيف عنها بما يملك من حنان.
    لم يكن أحمد كثير المرض، فهو يتمتع بصحة جيدة رغم إعاقته، وما هي إلا بعض الرشوحات والنزلات
    الشتوية التي كانت تباغته في أحيان متباعدة، ثم تغادر جسده بسرعة.
    وفي أحد الأيام، أصابه ألم في بطنه، لدرجة أنه لم ينم تلك الليلة، يعبر عن ألمه بصراخ مرتفع، فما كان منها
    إلا أن نقلته إلى الطبيب برفقة أحد الأقارب، فأعطاه الطبيب العلاج اللازم الذي تحسن عليه، مصرحاً أن
    هناك مشكلة في الجهاز الهضمي وعملية الإخراج، سببها قلة حركته وتنقله بحكم إعاقته.
    وبعد فترة استرد فيها عافيته واشتدت صحته، عادت الآلام بشكل أكثر حدة، وأصبحت تغزوه بشكل متكرر
    بين حين وآخر، ما أدى إلى ضعف جسده وهزاله، نتيجة فقدانه كميات كبيرة من السوائل، وفقدان شهيته،
    وقلة أكله ونومه.
    تحاول أمه الحنونة باستمرار تحفيز شهيته بإعداد الطعام الذي يحب، وتتحايل عليه ليأكل لقيمات من يدها
    يشددن صلبه، إلا أن ذلك أصبح أمراً صعباً، فقد اعتاد على كمية قليلة من أطعمة معينة دون غيرها، حتى
    ذلك يكون بعد إلحاح مستمر منها وطول عناء.
    هذا الوضع المتردي الذي وصلت إليه صحته، واحتياجه لرعاية خاصة ومستمرة من الصعب توفيرها في
    المنزل، دفعها للمبيت معه في المستشفى ومشاركته مرضه وألمه، فهي لا تستطيع مفارقته، ولم يسبق له أن
    بات بعيداً عنها ليلة واحدة.
    وفي تلك الليلة الباردة، كانت تطعمه بعض الحساء، وتقنعه بشرب المزيد من يدها، كانت تضع ملعقة في
    فمه وأخرى في فمها، لدفعه وتشجيعه على تناول الطعام، وتدعو له بالشفاء بين حين وآخر، وترضى عليه،
    وترجوه أن يأكل خوفاً على صحته، وهي تعرف كم يحبها ويحب ما تدعوه إليه.
    حبيبي يا أحمد، أرجوك




    .. هذه فقط.


    وبعد أن يشربها على مضض

    وهذه أيضاً، "على شاني..."






    حاولت أن تضحكه بتذكيره ببعض المواقف الساخرة التي حصلت معها، تحاول أن تخلق فرحاً له من عمق

    الألم، إلا أن الابتسامة صعبة المنال على شفتين ثقيلتين، فهو لا يملك أن يحرك غير العينين المتعبتين اللتين
    تريدان النوم.
    نظر إليها وكأنه يريد أن يودعها لتكون آخر ما تشاهد عيناه على هذه الأرض، كما كانت أول شيء شاهده
    من قبل عند ميلاده، وعندما شعرت بتعبه ونعاسه، غطته ودعت له بالشفاء، ولثمت قبلة على جبينه قد اعتاد
    عليها منذ أن وضعته قبل خمس وعشرين سنة.
    أحمد الذي لم يعرف الحب إلا بعد أن عرف والدته، ولم يعرف الدنيا إلا من خلالها، غ ّ ط في نوم عميق،
    دخل من خلاله إلى عالم آخر.
    فقد مكث مع والدته خمسة وعشرين عاماً، ومن حق والده هذه المرة أن يشتاق إليه ليمكث معه في حياة من
    نوع آخر لا يعلم كنهها إلا الله.
    الله أكبر




    .. الله أكبر.

    صوت المؤذن يعلن صلاة الفجر لتصحو الكائنات من نومها، تسبح لبارئها الذي أحياها بعد الممات، فتصحو

    عائشة على صوت نداء الحق مستجيبة طائعة.
    وقبل أن تشرع بالوضوء، أرادت الاطمئنان على ولدها الذي نام مبكراً وقد أعياه المرض، عندما وضعت
    يدها على جبينه شعرت به بارداً، لا تنبض فيه الحياة، لا تتحرك أنفاسه. كان هادئاً كما كتب له أن يكون..
    صامتاً كما عاش طيلة حياته، تلف جسده سكينة لم ترها على وجهه الأبيض من قبل




    .

    لم تشعر يدها بنبضاته، وحين حاولت إيقاظه تأكدت من موته، وتذكرت أول يوم صارت فيه أرملة صغيرة


    .

    فقد ودعت من قبل زوجها، وهي الآن تودع ابنها الوحيد، فلم يكن أمامها إلا أن تصرخ بأعلى صوتها،

    وكانت صرخاتها الثكلى تنذر بفقدانها العالم كله.
    كان كل منهما يدعو لنفسه أن يموت قبل الآخر، لكي لا يتذوق مرارة تعيشها الأم الآن، ويبدو أن الله سبحانه
    وتعالى قد استجاب لدعائه رحمة ورأفة به، وحتى لا يتذوق من الكأس الذي شربت منه أمه مرتين، مرة عند
    رحيل زوجها والأخرى عند وفاته<<





  2. #2
    تاريخ التسجيل
    13 - 4 - 2010
    ساكن في
    القاهره
    العمر
    48
    المشاركات
    32,835
    النوع : ذكر Egypt

    افتراضي

    بمثابة
    وضع النقاط
    على
    الحروف كان حرفك
    الرائع
    والراقى والعميق جدا
    أنجى
    وهل ثمة كلمات
    بعد كلماتك هذه
    كتذكار تبقى
    على جدار
    الإبداع

    يتأمله كل
    من يزور

    متحف نبضك
    لذا
    نطالبك بالمزيد
    تقديرى

  3. #3

    افتراضي

    والله ردودك تعجزنى عن الرد
    تسلم الايادى

 

 

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. نكت جامده موت موت موت موت موت موت
    بواسطة No TiMe في المنتدى خمسة فرفشة
    مشاركات: 15
    آخر مشاركة: 22 - 10 - 2013, 07:44 PM
  2. تعريف كروت الكمبيوتر( المودم.الصوت.الطابعات.كروت الشاشه.USB . Network.)
    بواسطة remas rozan في المنتدى منتدى البرامج العام والشروحات المصورة
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 14 - 3 - 2012, 09:16 PM
  3. اازاى تخليهاتموت فيك ؟وازاى تخلية يموت فيكى؟
    بواسطة نغم الحياة في المنتدى كلام في الحب
    مشاركات: 13
    آخر مشاركة: 23 - 2 - 2012, 12:04 AM
  4. مجموعه نكت جميله موت موت موت
    بواسطة mido3d في المنتدى خمسة فرفشة
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 26 - 5 - 2010, 04:14 PM

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • مش هتقدر تضيف مواضيع جديده
  • مش هتقدر ترد على المواضيع
  • مش هتقدر ترفع ملفات
  • مش هتقدر تعدل مشاركاتك
  •  
جميع الحقوق محفوظة لمنتديات مصراوي كافيه 2010 ©