قهوتنا على الانترنت
ابحث عن :  
النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: الجولة الأولى

  1. #1

    ملحوظة الجولة الأولى

    الجولة الأولى

    هو يومه الأول في العمل الذي انتظره طويلاً بعد التدريب، فقد مر بمراحل تعليمية وتدريبية في مدرسة
    الصم الخاصة، واكتسب منها مهارات ساعدته على التواصل مع الآخرين، تعلم في مدرسته أن الحياة لا
    تتوقف عند تعطل حاسة أو توقف أي جزء من أجزاء الجسم عن العمل، إلا أن لغة الإشارة قد ظلت وسيلته
    الأساسية التي لا تفارقه عند التواصل مع الآخرين نظراً لمستوى إعاقته السمعية.
    وبعد إجادته لمهارات القراءة والكتابة والمفاهيم العلمية الأساسية حسب البرنامج الأكاديمي الذي تلقاه في
    المدرسة، أصبح أكثر قدرة على التعايش مع إعاقته، ونمت فيه الرغبة بتطوير الذات، وتراءت له طاقات
    ومهارات لم يكن يلتفت لها من قبل، فانتقل حسب رغبته إلى مركز التدريب المهني ليتدرب على عمل
    يتناسب مع قدراته وميوله، فعاش مرحلة هامة من عمره، تخاطب سجيته الإنسانية الراغبة في البذل
    والعطاء، وتحاكي المرحلة العمرية التي يمر بها كشاب سوف يبني مستقبله من كده وعمله.
    تعرف على المهن المتوفرة في المركز، منها ما هو قديم ومنها ما هو مستجد، على اختلاف ما تتطلبه كل
    مهنة وعمل من قدرات جسدية أو عقلية أو غيرها من المهارات، فأحس بقربه من الكمبيوتر كجهاز يجذبه
    إليه، ومن خلاله يستطيع تفريغ طاقاته الكامنة واستغلالها فيما هو قيم ومفيد، فتعلق به وانسجم مع برامجه
    بسرعة لدرجة دفعت والده ليشتري له كمبيوتراً شخصياً اسهاماً منه في رفع مستواه وأدائه بالممارسة اليومية
    والتدريب في البيت، ما ساعده في تحقيق نجاح جيد بهذا المجال، واجتياز الفترة التدريبية المقررة بسرعة
    ونجاح يؤهلانه للانتقال إلى أي وظيفة تتطلب أعمال الطباعة أو حفظ الملفات أو إدخال البيانات.
    كان يستعرض هذا الشريط من الأحداث الطويلة المتسلسلة لمسيرته التعليمية والتدريبية التي مر بها في
    المدرسة وهو مستلق على سريره، تتابعه معه وسادته التي أتعبتها تقلباته، لتستكمل عنه تلك الذكريات
    أحلامه وتمنياته الصامتة التي تسبح في فضاءات رأسه، مشحونة بقلق كبير على أدائه في العمل الذي
    سيشغل أول أيامه مع إطلالة الصباح القريب.
    وكم هي طويلة هذه الليلة، على الرغم من أنها لا تقل من حيث مداها الزمني عن مئات الليالي التي لم يشعر
    بها سابقاً، لكن ما يميزها عن غيرها صباحها المنتظر الذي سوف يكون له نكهة جديدة مع العمل.
    تتجول فيه تخيلاته وتصوراته خارج جدران الغرفة، لتصل بعد زحمة المواصلات إلى الشركة الموعودة
    التي سيتوظف فيها، يدخلها ويسمع ضجيجاً يملؤها رغم ضعف سمعه، يراقب تحركات الموظفين المنهمكين
    كل بعمله، فلا يجد عند أحدهم متسعاً لإيماءة ترحيبية، أو ابتسامة عفوية.
    يتخيل مديرها الصارم قبل أن يراه، يصدر أوامره وتعليماته لموظفيه، وما عليهم إلى الطاعة والتنفيذ، هذا
    المدير لا يعرف عن الصم شيئاً، فلم يسبق له أن وظف أصماً في شركته.

    يقترب أكثر من مكتب المدير لتعترض طريقه سكرتيرته الحسناء، فيخبرها مترجم لغة الإشارة الذي رافقه
    أنه موظف جديد في الشركة، ولا تزيده لحظات الانتظار غير قلق على قلق.
    وحين يدخل ذلك المكتب الفخم أثاثه، يلتقط لنفسه صورة مع مديره المهيب، كان عابس الوجه تغطي جسمه
    البدين بدلة رجل أعمال داكنة، تتدلى من عنقه ربطة على قميص أبيض، ولا يزال منهمكاً بمكالماته
    الهاتفية، وأوراق كثيرة متناثرة على سطح المكتب تنتظر توقيعه.
    وبعد أن أنهى مكالمته الأخيرة وأشار عليه بالجلوس، تعرف عليه بسرعة، وشرع بتكليفه بمهام العمل، ومع
    أن المترجم الذي سيرافقه بداية يومه سيهون عليه كثيراً من الأمور، إلا أنه يخشى الاصطدام بصعوبة
    التواصل حين يكون وحيداً في عالم الموظفين الناطقين بالشركة، فيأخذ نفساً عميقاً ويقلبه القلق المتصاعد
    على الجانب الآخر من جسده الممدد على طول سريره، فيصدر سريره أصواتاً تكسر صمت الغرفة لا
    يسمعها أحد.
    وعلى الجانب الآخر، يستطيع الآن رؤية مكتبه الذي يختلف كثيراً عن المكتب الذي رآه قبل قليل، يعتليه
    جهاز الكمبيوتر الذي سيعتمد عليه في معظم أعماله. يجلس على كرسيه الدوار، وتبدأ أصابعه الثقيلة بالعزف
    بصوت نشاز على لوحة المفاتيح، وكأنه لم يألف هذا الجهاز من قبل، فيبدأ بالطباعة وإدخال البيانات، مع
    حاجته بين وقت وآخر لمفتاح الإلغاء منذ أن باشر العمل.
    وفي تلك الأثناء يدنو منه مسؤوله المباشر في العمل، يحمل بيديه مجموعة من الملفات، يتحدث إليه
    وتتحرك شفتاه بسرعة، دون أن تستطيع عيون الأصم قراءتها، يصاحب ذلك الكلام تعبيرات في الوجه
    وعقدة في الحاجبين، إلا أن الأصم لا يفهم مرمى الحديث، فيضطر مسؤوله للجوء إلى الكتابة على الورق
    لإيصال المطلوب، وقد استغرق ذلك شرحاً طويلاً، مما كان عائقاً أمام سرعة تدفق العمل ومرونته.
    أخذ نفساً عميقاً آخر ونظر إلى سقف الغرفة المظلم وسط سكون الليل، ليرى زملاءه يتكلمون مع بعضهم
    وينظرون إليه، تنبعث من الزاوية الأخرى رائحة الاستهزاء به، وتخرج بين حين وآخر ابتسامات لها
    مغزى، وكلمات لا يستطيع سماعها، ولكنه يصل إلى حقيقة أنه هو المعني من حديثهم، فيشعر بنفسه وحيداً
    في عمله فيطوي إلى جسده قدميه ويرفع الغطاء فوق رأسه كمن يستجلب الدفء في برد الشتاء.

    يحاول أن يترجم حديثهم ما دام مرافقه قد غادر مبكراً فلا بد أنهم يتساءلون بينهم
    : ما الذي جاء بهذا
    "

    الأخرس" بيننا، إنه لا يفهم شيئاً من عملنا، وهذا ما أوقعه في أخطاء كثيرة، إن مكانه ليس هنا، ليذهب إلى
    بيته ويريح نفسه من عمل لا يقدر عليه، وينتظر مخصصات الضمان الاجتماعي من الدولة

    .
    فيزداد اضطراب أصابعه المتنقلة بين المفاتيح، وتكثر أخطاؤه، ويقل إنجازه، فيبلع لعابه وتنتفخ أوداجه،
    وكأن رغبة بالبكاء تريد أن تجتاحه، لولا أن غلب عليه النعاس بعد طول تأمل وسهر، ليوقظه نور الصباح


    الذي بدأ بالتسلل مبكراً إلى عينيه من نافذة غرفته، فينهض من سريره وكأنها المرة الأولى التي ينهض فيها
    منه.
    اقتربت اللحظات التي سينطلق فيها إلى العمل، لتتزاحم ضربات قلبه، وتتداخل في ذاته انفعالات الخوف
    والقلق والفرحة، أخذ يغسل وجهه الذي لم ينم طويلاً، ويتفحص المرآة أمامه، فلا يجد فيه شيئاً غريباً يختلف
    عن الآخرين، حتى الأذنين والفم واللسان، هي موجودة كما قدر لها أن تكون، إلا أن بعض وظائفها قد
    تعطلت بفعل قادر، لكن ذلك لا ينفي عنه صفة من صفات البشر، أو يسلبه قدرة يمتلكها بالفعل.
    يبدأ ارتداء أفضل ما لديه من ثياب، ويستمتع باستنشاق شذى عطره المفضل، فلم تتعطل عنده حاسة الشم،
    كما هو الحال لدى كثيرين تتعطل حواسهم عند رؤية أو سماع ما يراه الآخرون ويسمعونه، على الرغم من
    عدم وجود أي خلل وظيفي أو مرض في حواسهم المعطلة.
    ويستشعر دفء الأمومة يسري في جسده، عندما قبضت يده كأساً من الشاي قد أعدته له والدته، يحتسي منه
    رشفات لها مذاق سكري دافىء تجلو عنه ضيق صدره، وتأخذه إلى فضاء رحب.
    كم هي فرحة أمه كبيرة بهذا اليوم الذي تعتبره أول حصادها لأعوام مضت، تحاول أن تخفي قلقها عليه،
    تفرك يديها وتمتمة تعلو شفتيها، وهو مدرك بأنها تدعو له برضا الله و بركة رضاها عليه والتوفيق له في
    عمله، يومىء لها بإشاراته التي تفهمها بسهولة فقلب الأم ليس بحاجة لإشارة يتعلمها لتخاطب بها فلذة كبدها.
    خرج من باب المنزل ترافقه نظراتها إلى الزاوية البعيدة من الطريق، فيدير رأسه نحوها وكأنه يودعها
    ليختفي ظله عن عينيها قبل أن تغلق الباب داعية له بالتوفيق.
    ها هو الآن يدخل الشركة مع مترجم لغة الإشارة المنتدب من مدرسته، لم تكن هالة الشركة التي رسمها في
    مخيلته موجودة على أرض الواقع، لم تكن هي ببنائها وأبوابها ومرافقها، كان لها في ليله شكل آخر مختلف
    تماماً عن الواقع وأكثر تعقيداً.
    وبينما هما في طريقهما إلى مكتب المدير، بادلهما أحد الموظفين ابتسامة عريضة ارتسمت على محياه،
    وأرشدهما إلى المكتب المنشود، فرحبت السكرتيرة بهما، وأدخلتهما إلى المدير الذي كان منتظراً لهذا اللقاء.
    وبعد أن احتسى كأساً من الشاي كان شبيهاً بمذاق الكأس الذي شربه من يد أمه، اختفى قلقه مع أولى
    عبارات المدير البشوش، ومع إشارات المترجم الذي شرح له من خلالها طبيعة عمله، وحين رافقه المدير
    إلى مكتبه الذي سيعمل فيه عرفه على زملائه في المكتب قائلاً:
    هذا هو الموظف الجديد الذي حدثتكم عنه، ستكون لديكم فرصة ثمينة لتعلم لغة الإشارة على يديه، والتعرف
    على وجه آخر للحياة لم تعهدوه من قبل، هو عالم الإعاقة، بل عالم القدرات، فلا تبخلوا عليه بخبرتكم،
    وسيكون لمساندتكم له في أيام عمله الأولى مردود إيجابي على نجاحه واستقراره بالعمل، ولا تنسوا أنه
    سيكلف بنفس مهامكم، وستسري عليهالأنظمة والتعليمات نفسها، وستكشف لكم الأيام أداءه الحسن ومثابرته
    في العمل.
    فكان أن استقبله زملاؤه وكأنهم يعرفونه من قبل، وحب الفضول يدفعهم للمبادرة والتواصل معه بالإشارة
    والكتابة.
    وكان مما لفت نظره كمبيوتره المنتظر الذي رآه على مكتبه، فبدأ يمرر أصابعه على مفاتيحه بسلاسة ويسر،
    حين كلفه مسؤوله المباشر بأولى مهمات الطباعة وإدخال البيانات. لقد أعجب الزملاء من فطنته وحسن
    استيعابه، فقد كانوا يخلطون بين مختلف الإعاقات وخصائص كل منها، فكانت تغمره السعادة بأول يوم عمله
    في وظيفته، وكأن هذا اليوم حلم مر طيفه فوق سريره كلمح البصر.
    رجع إلى البيت منتصراً في جولته الأولى، وقد كسر حاجزاً نفسياً كان يكبله منذ ليلة أمس، احتضنته أمه
    بحنانها وقبلته، وقد محى من مخيلته كل الصور التي طبعت مسبقاً عن عمله ومديره وزملائه.
    وعندما أسدل الليل ستاره، عاد إلى السرير نفسه، وإلى وسادته المتعبة، ليريحها هذه المرة من قلقه ويحدثها
    عن يومه الأول في العمل، وعن زملائه ومكتبه وكمبيوتره، وعن كل ما حدث معه، فتقلبه الفرحة إلى جانبه
    الآخر، ليستعجل يوماً جديداً مشرقاً آخر من العمل، ويحدق في سقف الغرفة لحظات، فينام بعدها بعمق، إلى
    أن يدغدغ وجهه نور الشمس المتسرب عبر النافذة، فينهض بسرعة... يغسل وجهه ويلبس ثيابه ويشرب
    شايه ويقبل يد أمه ويذهب وحده إلى العمل.



  2. #2
    تاريخ التسجيل
    13 - 4 - 2010
    ساكن في
    القاهره
    العمر
    48
    المشاركات
    32,835
    النوع : ذكر Egypt

    افتراضي

    حرفك ساحر جميل
    كلمات مليئة
    بحكايا وصور
    بروعة فى الحروف
    ورقي بالتعبير
    انجى
    متسيده أنت للحرف
    والكلام
    مهما قلت
    و أثنيت على
    إبداعك
    لن أصل لحد الجمال
    المشرق فيه
    لذا سأتمتع بنقشكِ
    الصادق
    و أقول كم أنا محظوظ
    لأني العابر الأول
    فلقلمك الرائع
    كل الشكـر
    دمتِ بـ كل خير و أكثر
    تقديري
    وكل احترامى



  3. #3

    افتراضي

    تسلم الايادى على الرد الجميل

 

 

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • مش هتقدر تضيف مواضيع جديده
  • مش هتقدر ترد على المواضيع
  • مش هتقدر ترفع ملفات
  • مش هتقدر تعدل مشاركاتك
  •  
جميع الحقوق محفوظة لمنتديات مصراوي كافيه 2010 ©