وأما التأمل في القرآن فهو :
تحديق ناظر القلب إلى معانيه ، وجمع الفكر على تدبره وتعقله وهو المقصود بإنزاله لا مجرد تلاوته بلا فهم ولا تدبر قال الله تعالى : " كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب " وقال تعالى " أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها "
وقال الحسن : نزل القرآن ليتدبر ويعمل به فاتخذوا تلاوته عملا فليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده وأقرب إلى نجاته : من تدبر القرآن وإطالة التأمل وجمع منه الفكر على معاني آياته ..
فإنها : تطلع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرهما وعلى طرقاتهما وأسبابهما وغاياتهما وثمراتهما ومآل أهلهما وتتل في يده مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة وتثبت قواعد الإيمان في قلبه وتشيد بنيانه وتوطد أركانه وتريه صورة الدنيا والآخرة والجنة والنار في قلبه وتحضره بين الأمم وتريه أيام الله فيهم وتبصره مواقع العبر وتشهده عدل الله وفضله وتعرفه ذاته وأسماءه وصفاته وأفعاله وما يحبه وما يبغضه وصراطه الموصل إليه وما لسالكيه بعد الوصول والقدوم عليه وقواطع الطريق وآفاتها وتعرفه النفس وصفاتها ومفسدات الأعمال ومصححاتها وتعرفه طريق أهل الجنة وأهل النار وأعمالهم وأحوالهم وسيماهم ومراتب أهل السعادة وأهل الشقاوة وأقسام الخلق واجتماعهم فيما يجتمعون فيه وافتراقهم فيما يفترقون فيه .
وبالجملة : تعرفه الرب المدعو إليه وطريق الوصول إليه وما له من الكرامة إذا قدم عليه وتعرفه في مقابل ذلك ثلاثة أخرى : ما يدعو إليه الشيطان والطريق الموصلة إليه وما للمستجيب لدعوته من الإهانة والعذاب بعد الوصول إليه فهذه ستة أمور ضرورية للعبد معرفتها ومشاهدتها ومطالعتها فتشهده الآخرة حتى كأنه فيها وتغيبه عن الدنيا حتى كأنه ليس فيها وتميز له بين الحق والباطل في كل ما اختلف فيه العالم فتريه الحق حقا والباطل باطلا وتعطيه فرقانا ونورا يفرق به بين الهدى والضلال والغي والرشاد وتعطيه قوة في قلبه وحياة وسعة وانشراحا وبهجة وسرورا فيصير في شأن والناس في شأن آخر ..
... فاعتصم بالله واستعن به وقل : حسبي الله ونعم الوكيل وفي تأمل القرآن وتدبره وتفهمه : أضعاف أضعاف ما ذكرنا من الحكم والفوائد وبالجملة : فهو أعظم الكنوز طلسمه الغوص بالفكر إلى قرار معانيه :
نزه فؤادك عن سوى روضاته * فرياضه حل لكل منزه
والفهم طلسم لكنز علومه * فاقصد إلى الطلسم تحظ بكنزه
لا تخش من بدع لهم وحوادث * ما دمت في كنف الكتاب وحرزه
من كان حارسه الكتاب ودرعه * لم يخش من طعن العدو ووخزه
لا تخش من شبهاتهم واحمل إذا * ما قابلتك بنصره وبعزه
والله ما هاب امرؤ شبهاتهم * إلا لضعف القلب منه وعجزه
يا ويح تيس ظالع يبغي * مسابقة الهزبر بعدوه وبجمزه
ودخان زبل يرتقى للشمس يستر * عينها لما سرى في أزه
وجبان قلب أعزل قد رام يأسر * فارسا شاكى السلاح بهزه
مدارج السالكين 1/451