الفقيه والسياسي .. وإثبات الشهور القمرية!
في سنة 1939م كان عيد الأضحى في مصر يوم الإثنين، وفي السعودية يوم الثلاثاء، وفي بومباي يوم الأربعاء!! وعلى الرغم من أن هذه الحادثة ليست غريبة على المسلمين؛ فقد تكررت في الماضي كثيرا (ابتداء من حادثة ابن عباس وابن عمر الشهيرة، حين قدم من الشام)، وما تزال تتكرر إلى يومنا هذا، غير أن هذه الحادثة العجيبة ـ التي تتكرر على فترات ليست متباعدة كثيرا ـ أثارت العمل الفقهي من جديد في موضوع إثبات الشهور العربية القمرية، وقد كانت آنذاك قد بدأت التطورات المثيرة في البحث الفلكي وحساباته بالبروز.
وإذا كان -وما يزال- هناك اختلاف كبير ذو طبيعةٍ فقهية في طُرُقِ تحديد بدايات الأشهر القمرية، وفي اعتماد الرؤية أو الحساب بالتحديد، فإنه كان - وما يزال - السياسي ُيحمَّل وزر الاختلاف الفعلي في إعلان ذلك الإثبات؛ ذلك أن هذا الخلاف لا ينظر إليه (شعبيا على الأقل) بحسن نية؛ بوصفه خلافا فقهيا، بل بوصفه لعبة سياسية تهدف إلى تفريق المسلمين وتمزيق وحدتهم. ونحن نشهد في كل عام على أبواب رمضان وفي مطلعه، الكتاب والصحفيين وهم يركزون على البعد السياسي، ويطالبون بمرجعية موحدة أو بحسم الخلاف الفقهي لصالح الحسابات الفلكية.
ما من شك أن السياسي يتحمل مسؤولية كبيرة، وهو - بحسن نيَّة أو بسوئها - يساهم فعلاً في تفريق صفوف المسلمين، غير أنه ليس من العدل تحميل السياسيين وحدهم تلك المسؤولية كاملة، فالفقيه ما يزال ـ في كثير من الأحيان ـ يتعامل مع هذه المسألة من منظور مذهبي، أو لا يبذل جهودًا قصوى لحل المسألة على ضوء العلم الإنساني، فهو - على الأقل - لا يسعى لمراجعتها على ضوء آثارها السياسية والاجتماعية على العالم الإسلامي، وإن كان عديد من الفقهاء يمارسون هذا الدور بدأب؛ فقد عُقد في النصف الأخير من القرن العشرين ما يزيد عن عشرين مؤتمرًا فلكيا وفقهيا من أجل حسمها، تناولت هذه المؤتمرات المشاكل الفقهية والفلكية بالدرس والتحليل.
وخلاصة الجهود المبذولة في هذه المؤتمرات حصرت الخلافات الفقهية في إثبات الشهور القمرية حول ثلاث قضايا رئيسية:
1. طريقة إثبات الشهر بالرؤية أم بالحساب.
2. تحديد الشهر القمري بالإهلال أم بالاقتران.
3. اعتبار المطالع (تعدد المطالع) بين القبول والإلغاء.
<STRONG><FONT size=5>ورغم أنه لا خلاف في اعتبار الرؤية أصلا شرعيا، فهي التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: <FONT face="Arabic Transparent">"صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته"[1]، إلا أن الفقهاء اختلفوا في حقيقة الرؤية، وفي صورها، وفي أهلها، وفي عددهم، وفي شروط صحتها، وفي وسيلتها، وفي أدائها (كيفية التعبير عنها)، وفي نقلها، وغير ذلك مما تطول به القائمة. وما من شك بأن الرؤية البصرية كانت الوسيلة الوحيدة لإثبات الأهلة في القرون الهجرية الأولى خصوصًا، والقرون التالية لها على وجه العموم. ولكن مع ظهور وتطور علم الفلك ابتداءً من القرن الثالث للهجرة النبوية، ظهر الحساب الفلكي وسيلةً ثانوية في الإثبات في بعض الحالات الخاصة، غير أن <SPAN lang=AR-AE>جمهور الفقهاء لا يرون الحساب وسيلة للإثبات؛ فهم بين متمسك بحرفية النص النبوي، وبين غير واثقٍ بنتائج هذا العلم.