بقلم د/نبيل فاروق
لأن كتاب الجواسيس، (Spy Book)، يعد موسوعة متكاملة، في علوم وفنون المخابرات، ولأنه طبعة أمريكية، قلباً وقالباً، كان من الطبيعي أن يحدثنا عن واحدة من أهم العمليات العنيفة، التي لعبت فيها المخابرات الأمريكية دوراً فعالاً، خلال تاريخها القصير نسبياً...
من العجيب أن تعد أزمة الصواريخ الكوبية في أكتوبر 1962م نجاحاً وفشلاً -في آن واحد- لقدرات المخابرات الأمريكية، ولكي نستوعب هذا الأمر، علينا أن نستعرض، مع كتاب الجواسيس، تلك الأزمة كاملة...
لقد تفجّرت الأزمة بعد محاولة القائد السوفيتي (نيكيتا خروتشوف)؛ وضع صواريخ باليستية، مزودة برؤوس نووية في (كوبا)، كمحاولة منه لتعويض اختلال التوازن المتزايد في الأسلحة الإستراتيجية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي..
ولقد أعطيت لعملية نقل الصواريخ الإستراتيجية إلى(كوبا)- بحماية القوات البحرية والجوية والبرية الروسية- الاسم الكودي (أنادير)..
كانت الخطة الأصلية تقضي بشحن 36 صاروخاً باليستياً (آر-12 تصميم روسي، يو إس ساندل إس إس -5)، و24 صاروخاً متوسط المدى (آر-12 تصميم روسي، يو إس سكين إس إس -5)، على أن يحظى الستون صاروخاً برؤوس نووية، وأن يصلوا إلى الأهداف المحددة بالولايات المتحدة، على نحو مضمون، وبالغ الدقة..
وكان من الضروري أيضاً أن تكون صواريخ الدفاع الساحلية، وصواريخ المدفعية، وقاذفات القنابل الخفيفة (آي وان - 28 بيجل)، كلها مزودة برؤوس نووية..
وكل هذا لصد القوات الأمريكية، التي يحتمل أن تغزو الجزيرة.!!..
في مجمل الأمر تقريباً، كان هناك حوالي ألف سوفيتي من فرق برية، وبحارة، وطيارون، وميكانيكيون، وتقنيون، وعسكريين، ومستخدمون آخرون. كان من المفترض أن يصلوا إلى (كوبا).
القضية كانت واضحة تماماً للسوفيت، أحد الضباط الروس المتقاعدين، (د.جونرجي سفياتوف)، الضابط البحري، قال إنه فى أواخر عام 1962م، عندما كان يعمل كملازم مهندس شاب في إنشاء الغواصات:
"جاءت (كوبا) كقرار يسير.. فوضع الصواريخ الإستراتيجية في (كوبا) يعكس سهولة الانتشار لسلاح إستراتيجي، كما كان يمثل برامجنا العاجلة لتزويد غواصاتنا بصواريخ باليستية، ثم إننا كنا ندعم (كوبا)، تلك الثورة الرومانسية، بالإضافة إلى أن صواريخنا في (كوبا) تعادل صواريخ (جوبيتر) الأمريكية في (تركيا).."
قوله هذا لخص الهدف الحقيقي، في كلمات موجزة؛ فالولايات المتحدة الأمريكية، أباحت لنفسها نشر صواريخها، على حدود متاخمة للاتحاد السوفيتي، فلم يعد أمامه إلا أن يقوم بالمثل، في (كوبا)..
ولقد حملت السفن التجارية للكتلة الشرقية والسوفيت الرجال والأدوات -متخفية ببراعة- منذ 26 يوليو 1962م..
في ذلك الصيف كان القادة الأمريكيون -من سياسيين وعسكريين- مشغولين إلى أقصى حد بالمشاكل في (برلين)، وأزماتهم في (فيتنام). وكان هناك تخمين بالفعل من قِبَل كبار الضباط الأمريكيين، بأنه من المحتمل أن يجلب السوفيت صواريخاً بعيدة المدى، أو قاذفات قنابل إلى (كوبا)، إلا أنه لم يكن هناك دليل قوى على ذلك.
لذا، فقد أرسلت الـCIA بطائرة التجسس U-2 للتحليق فوق (كوبا) ابتداءً من أكتوبر 1960م، ولعدة مرات.
وبناءً على أوامر (جون ماكون) مدير المخابرات المركزية -الذي عينه الرئيس (كينيدي)، في نوفمبر 1961م- ازداد عدد التحليقات شاهقة الارتفاع فوق (كوبا).
وفي أواخر صيف 1962م، وفرت مصادر استخبارية عدة لإدارة (كينيدي)، معلومات عن نشر أسلحة سوفيتية في (كوبا)، ولكن لم تكن هناك أية إشارات إلى أن الرؤوس النووية قد أرسلت بالفعل إلى (كوبا)..
أفادت أربعة تقييمات للمخابرات المركزية تطورت بوساطة أعضاء المخابرات في 1962م بأن السوفيت لم ينشروا أسلحة نووية بالجزيرة..
وفي يونيو 1962م، أظهرت أربع طلعات للـU-2 فوق (كوبا) في صورها الفوتوجرافية دلالات أولى على أن الكوبيين يقومون بتركيب صواريخ "سام" (SAM) أرض-جو، إلا أن الصواريخ في حد ذاتها لم تعتبر دليلاً في ذلك الوقت..
وعندما حلقت الـU-2 في الخامس من أغسطس كشفت عن دلالات أكثر على تحضير مواقع للصواريخ الـ(سام)..
وكان هذا يغير الموقف كله..
تماماً.