تضمن ( سورة ق ) تقرير المبدأ والميعاد وصفات التوحيد
وقد جمعت هذه السورة( سورة ق ) من أصول الإيمان ما يكفي ويشفي, ويغني عن كلام أهل الكلام, ومعقول أهل المعقول,
فإنها تضمّنت تقرير المبدأ والمعاد والتوحيد والنبوّة والإيمان بالملائكة, وانقسام الناس إلى هالك شقي, وفائز سعيد, وأوصاف هؤلاء وهؤلاء.
وتضمّنت إثبات صفات الكمال لله, وتنزيهه عما يضاد كماله من النقائص والعيوب.
وذكر فيها القيامتين : الصغرى والكبرى, والعالمين: الأكبر, وهو عالم الآخرة, والأصغر وهو عالم الدنيا.
وذكر فيها خلق الإنسان ووفاته وإعادته, وحاله عند وفاته ويوم معاده وإحاطته سبحانه به من كل وجه, حتى علمه بوساوس نفسه, وإقامة الحفظة عليه, يحصون عليه كل لفظة يتكلم بها, وأنه يوافيه يوم القيامة, ومعه سائق يسوقه إليه, وشاهد يشهد عليه, فإذا أحضره السائق قال:{ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ }, ق 23.أي هذا الذي أمرت بإحضاره قد أحضرته, فيقال عند إحضاره:{ أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ }, ق24.كما يحضر الجاني إلى حضرة السلطان فيقال: هذا فلان قد أحضرته, فيقول: اذهبوا به إلى السجن وعاقبوه بما يستحقّه.
وتأمّل كيف دلّت السورة صريحا على أن الله سبحانه وتعالى يعيد هذا الجسد بعينه الذي أطاع وعصى, فينعمه ويعذّبه, كما ينعم الروح التي آمنت بعينها, ويعذّب التي كفرت بعينها, لا أنه سبحانه يخلق روحا أخرى غير هذه فينعمها ويعذبها كما قاله من لم يعرف المعاد الذي أخبرت به الرسل, حيث زعم أن الله سبحانه يخلق بدنا غير هذا البدن من كل وجه, عليه يقع النعيم والعذاب, والروح عندهم عرض من أعراض البدن, فيخلق روحا غير هذه الروح, وبدنا غير هذا البدن
وهذا غير ما اتفقت عليه الرسل ودلّ عليه القرآن والسنّة وسائر كتب الله تعالى وهذا في الحقيقة إنكار للمعاد وموافقة لقول من أنكره من المكذبين, فإنهم لم ينكروا قدرة الله على خلق أجسام أُخر غير هذه الأجسام يعذبها وينعمها, كيف وهم يشهدون النوع الإنساني يخلق شيئا بعد شئ! فكل وقت يخلق الله سبحانه أرواحا وأجساما غير الأجسام التي فنيت, فكيف يتعجّبون من شئ يشاهدونه عيانا؟ وإنما تعجّبوا من عودهم بأعيانهم بعد أن مزّقهم البلى وصاروا عظاما ورفاتا, فتعجّبوا أن يكونوا هم بأعيانهم مبعوثين للجزاء,
ولهذا قالوا :
الصافات (16)
وقالوا: { ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ } ق 3.
ولو كان الجزاء إنما هو لأجسام غير هذه, لم يكن ذلك بعثا ولا رجعا, بل يكون ابتداء, ولم يكن لقوله: { قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ }, ق4. كبير معنى.
فإنه سبحانه جعل هذا جوابا لسؤال مقدّر, وهو: أنّه يميز تلك الأجزاء التي اختلطت بالأرض واستحالت إلى العناصر بحيث لا تتميّز, فأخبر سبحانه بأنه قد علم ما تنقصه الأرض من لحومهم وعظامهم وأشعارهم, وأنه كما هو عالم بتلك الأجزاء, فهو قادر على تحصيلها وجمعها بعد تفرّقها وتأليفها خلقا جديدا,
شبه المنكرين للمعاد تعود إلى ثلاث أنواع
وهو سبحانه يقرر المعاد بذكر كمال علمه, وكمال قدرته, وكمال حكمته, فإن شبه المنكرين له كلها تعود إلى ثلاثة أنواع :
(أحدها): اختلاط أجزائهم بأجزاء الأرض على وجه لا يتميّز ولا يحصل معه تميز شخص عن شخص.
(الثاني): أن القدرة لا تتعلّق بذلك.
(الثالث): أن ذلك أمر لا فائدة فيه, أو إنما الحكمة اقتضت دوام هذا النوع الإنساني شيئا بعد شئ, هكذا أبدا, كلما مات جيل خلفه جيل آخر. فأمّا أن يميت النوع الإنساني كله ثم يحييه بعد ذلك فلا حكمة في ذلك .
براهين المعاد في القرآن مبنيّة على أصول ثلاثة
فجاءت براهين المعاد في القرآن مبنية على ثلاثة أصول ،
(أحدها) تقرير كمال علم الرب سبحانه
كما قال في جواب من قال: { مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } يس 78-79.
وقال:{ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} الحجر 85-86.
وقال:{ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ } ق 4.
(والثاني) تقرير كمال قدرته
كقوله: { أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ } يس81.
وقوله: { بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ } القيامة 4.
وقوله:{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }الحج6.
ويجمع سبحانه بين الأمرين كما في قوله:
يس (81)
(والثالث): كمال حكمته
كقوله:
الدخان (38)
وقوله: { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا } ص 27.
وقوله:
القيامة (36)
وقوله: { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ. فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَق } المؤمنون 115-116.
وقوله:
الجاثية (21)
الصواب أن المعاد معلوم بالعقل مع الشرع
ولهذا كان الصواب أن المعاد معلوم بالعقل مع الشرع , وأن كمال الرب تعالى وكمال أسمائه وصفاته تقتضيه وتوجبه, وأنه منزّه عمّا يقوله منكروه كما ينزه كماله عن سائر العيوب والنواقص .
ثم أخبر سبحانه أن المنكرين لذلك لمّا كذّبوا بالحق اختلط عليهم أمرهم{ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ } ق5.مختلط لا يحصلون منه على شئ.
ثم دعاهم إلى النظر في العالم العلوي وبنائه وارتفاعه واستوائه وحسنه والتئامه , ثم إلى العالم السفلي وهو الأرض , وكيف بسطها وهيّأها بالبسط لما يراد منها وثبّتها بالجبال وأودع فيها المنافع وأنبت فيها من كل صنف حسن من أصناف النبات على اختلاف أشكاله وألوانه ومقاديره ومنافعه وصفاته, وأن ذلك تبصرة إذا تأمّلها العبد المنيب وتبصّر بها تذكر ما دلت عليه مما أخبرت به الرسل من التوحيد والمعاد ,فالناظر فيها يتبصّر أولا, ثم يتذكر ثانيا, وأن هذا لا يحصل إلا لعبد منيب إلى الله بقلبه وجوارحه .
ثم دعاهم إلى التفكّر في مادة أرزاقهم وأقواتهم وملابسهم ومراكبهم وجناتهم وهو الماء الذي أنزله من السماء وبارك فيه, حتى أنبت به جنّات مختلفة الثمار والفواكه, ما بين أبيض وأسود وأحمر وأصفر وحلو وحامض, وبين ذلك مع اختلاف منافعها وتنوّع أجناسها, وأنبتت به الحبوب كلها على تنوعها واختلاف منافعها وصفاتها وأشكالها ومقاديرها .
ثم أفرد النخل لما فيه من موضع العبرة والدلالة التي لا تخفى على المتأمل:{ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } البقرة164, ثم قال:{ كَذَلِكَ الْخُرُوجُ } ق 11.أي مثل هذا الإخراج من الأرض الفواكه والثمار والأقوات والحبوب: خروجكم من الأرض بعد ما غيّبتم فيها .
وقد ذكرنا هذا القياس وأمثاله من المقاييس الواقعة في القرآن في كتابنا"المعالم"وبيّنا بعض ما فيها من الأسرار والعبر.