البحث عن النور في الظلام الذي صنعناه








يعرفنا العالم بأسره أننا سلالة الفراعنة نحمل تراثهم وبعضا من ملامحهم ونعيش في أرض عاشوا فيها ونحرس آثارها التي مازالت تغالب الزمن‏.‏ ولا نعرف في تاريخ العالم أمة تدين بالفضل لأجدادها الأقدمين مثلما هو الحال في مصر‏.

‏ فالقدامي من المصريين وقد طوتهم قرون الزمان البعيدة مازالوا مصدر ثراء مادي وثقافي ومبعث فخر لأسلافهم المحدثين‏.‏

أما نحن المصريين فلا نعرف علي وجه اليقين أين نضع تلك الحقبة الزمنية المجيدة من ضميرنا الوطني؟

غالبا ما يكتفي المصريون من هذه الحقبة بالفخر حين نوضع في موقع المفاضلة مع شعوب أخري فنجتر الحديث عن مجد الآباء الذي لا نعلم عنه شيئا‏.‏

وحين يتحدث مؤرخ أو عالم مصريات عن بعض الانجازات العامة للمصريين في تلك الفترة نصبح نحن وغيرنا في المعرفة سواء‏,‏ الغالبية العظمي منا لا تعرف من ملوك الفراعنة سوي ما ارتبط اسمه بشارع أو ميدان أو الأهرامات الثلاثة‏,‏ وبعض المعابد باعتبارها مزارات سياحية فقط‏.

‏ بل إن الحديث عن أمجاد تلك الفترة أصبح يثير المخاوف لدي البعض من أن يتهم بإنكار عروبة مصر ومحاولة فصلها عن ثقافتها العربية التي أصبحت لدينا من المقدسات الإسلامية‏.‏



لقد قبلت مصر الإسلام والعروبة وأصبحت بأبنائها رافدا أساسيا للثقافة العربية والإسلامية واصطبغت حياتها بتلك الثقافة ولا تستطيع قوة مهما تكن أن تنحي الثقافة العربية عن مكانتها الراسخة في الضمير الوطني المصري للمسلمين والأقباط علي السواء‏,‏ غير أن أوهام الخوف لا ينبغي أن تدفع بتلك الحقبة من تاريخنا إلي غياهب النسيان أو الجحود الذي يدفع نفرا من المصريين إلي الحديث عن الأحامسة والتحامسة والرعامسة علي أنهم مجموعة من الأبالسة‏..‏ يدفعني إلي هذا الحديث كتاب أهداه لي الصديق الدكتور صابر عرب رئيس دار الكتب والوثائق القومية‏.‏


طبع هذا الكتاب في طبعته الأولي عام‏1955‏ ثم أعادت الهيئة العامة للكتاب طباعته عام‏1992.‏ رواية تاريخية بعنوان المصري‏..‏ دنيا سنوحي مؤلفه روائي فنلندي شهير هو مايكا وولتاري‏,‏ ترجمه إلي العربية الأستاذ حامد القصبي‏,‏ وقد كان مهندسا عمل وكيلا لوزارة الأشغال وقدم له عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين‏.‏


الكتاب الروائي يتجاوز تصوير حياة المصريين في عهد اخناتون إلي تقديم صورة بالغة الدقة عن العالم الذي عرفه المصريون آنذاك‏,‏ يتنقل بطل القصة في أنحاء مصر ويتجاوز حدودها إلي فلسطين وسوريا‏,‏ ثم يمضي إلي بابل ثم جزيرة كريت‏,‏ عاشر الحكام واتصل بأهلها ليقص علينا من سير أولئك هؤلاء وأنبائهم أطرافا أيسر ما توصف به أنها تخلب وتروع كما قال الدكتور طه حسين‏,‏ كل ما في الكتاب رائع تصويرا ووصفا وانصافا لأكثر الشعوب القديمة احتراما وعطاء وفضلا علي الحضارة البشرية‏,‏ كان المؤلف أشبه بمؤرخ صاغ عصرا من عصور التاريخ في قالب قصصي‏,‏ فالأحداث وثيقة الصلة بحقائق التاريخ وهو عمل أقرب إلي ما نعرفه اليوم بالتوثيق الدرامي‏.‏ولست أعرف سببا واحدا جعل كتاب الدراما التليفزيونية ومنتجيها يتنكرون تماما لتلك الحقبة من تاريخ مصر والعالم‏,‏ فلست أذكر عملا دراميا واحدا أنجزه الإبداع المصري السينمائي والتليفزيوني حاول انصاف هؤلاء الذين لا يزالون ينفقون علينا وهم أموات باستثناء مومياء الراحل شادي عبدالسلام


,‏ اقتربت الدراما التليفزيونية يوما من تاريخنا القديم وليتها ما فعلت‏,‏ ارتكبت الخطأ الفادح بتعميم حديث القرآن عن فرعون موسي علي عصور التاريخ المصري القديم بأسره فأصبح الفراعين جميعا طغاة والمصريون جميعا مستعبدين وثنيين‏,‏ فتشت الدراما التليفزيونية في كل جوانب التاريخ الوسيط والحديث والمعاصر وسلطت الأضواء علي كثير من الشخصيات التي تستحق والتي لا تستحق‏,‏ وبقيت تلك الصفحات الناصعة من تاريخنا بعيدة ومجهولة ربما لا يروق لبعض العرب وهم القوة الشرائية الرئيسية في صناعة الدراما العربية مسلسلات تتحدث عن مصر الفرعونية رغم ولعهم الشديد بأفلام الغرب الأمريكي والفايكنج وروما القديمة‏,‏ ولكن هذه مسئوليتنا نحن وبات إنصاف تلك الحقبة من التاريخ واجبا وطنيا بوضعها تحت الضوء المبهر لدراما التليفزيون قصة المصري‏..‏ دنيا سنوحي التي تحدثت عنها تبدو مشروعا دراميا تليفزيونيا رائعا يمكن أن نرتاد به دوائر أوسع من الناطقين بالعربية‏,‏ ولا أحسب أن الموارد المالية في غيبة التمويل العربي يمكن أن تقف عقبة في طريق عمل درامي من هذا النوع‏,‏ فقد أصبحت لدينا قنواتنا القادرة علي تمويل عمل رائع من هذه النوعية المنسية‏,‏ ولدينا رأس مال وطني يري في إبراز أروع حقب التاريخ المصري واجبا ومسئولية‏.‏


أعود مرة أخري إلي تلك المقدمة التي كتبها المترجم لرواية المصري‏..‏ دنيا سنوحي نقلا عن الكاتب الانجليزي المعروف آرثر مي في دائرة المعارف الانجليزية كانت جماعات وأقوام شتي من البشر تحيا قريبا من دجلة والفرات حياة ملؤها الخشونة‏,‏ فلم يكن بينها إلا ما يكون بين الجماعات المتنافرة من الضراوة والتقاتل والشر المقيم المتصل‏,‏ في ذلك الحين كانت هناك في مصر جماعة بشرية أخري تحيا حياة إنسانية متوادعة ومتوادة ناعمة بالأمن والسلام‏,‏ تحرك فيهم العقل المنظم واندفع بهم إلي ممارسة الحياة علي أسلوب إنساني بعيد كل البعد عن وحشية الآخرين وهمجيتهم هم أول من اهتدوا إلي إله وأول من اشترعوا شريعة تقربهم إليه‏.‏


تساموا في النظر إليه علي الأرض فراحوا يلتمسونه في السماء كانوا يرفعون رؤوسهم إلي أعلي‏,‏ ويديرون عيونهم في الكواكب والنجوم والأفلاك فزادهم النظر لها والتطلع إليها استنارة فكر ويقظة عقل وقوة روح خلصت لهم من ذلك معتقدات دينية تتباين في مراسمها ومسمياتها


‏ ولكنها آخر الأمر تتحد في لبابها وجوهرها إذ ينتهي بها كل فريق منهم إلي إله يمثل القوة الخارقة المسيطرة علي اخلاقهم وحركاتهم وأفعالهم‏,‏ ومهما يكن من شأن معتقدات قدماء المصريين‏,‏ فإن ثمة أمرا لا يمكن تجاهله وهو انها كانت الطلقة الأولي في اتجاه العقيدة الصحيحة التي انتبه إليها وسار في طريقها من جاءوا بعد ذلك من عظماء البشرية‏,‏ وهذا الذي بلغه المصريون القدماء علي طريق العقل حينذاك‏,‏ كان بلاشك مشرق نور الحضارة الإنسانية في عالم بدائي يعيش وسط ظلمات متراكمة ودياجير حالكة السواد وهو أمر يرفعهم إلي القمة والصدارة من التاريخ البشري المتحضر هذا الوصف الذي لم يوصف به من قبل شعب في العالم ينساب احداثا وشخصيات وابداعا في ذلك العمل الروائي التاريخي‏,‏ ولأن كانت رياح الشرق والغرب قد غيرت من مزاج المصريين المحدثين شيئا فتحولوا إلي البحث عن النور في الظلام الذي صنعوه بالحرية حينا‏,‏ وبدعاوي التغيير والاصلاح حينا آخر‏,‏ فإن تحت الجلد روحا لا تزال تنبض بقيم وتصورات ذلك العهد المجيد‏.‏



بقلم : د‏.‏ حمدي حسن أبوالعينين