المصيبة أنهم يتحرشون، ويتحرشون بعنف وصلف.. الشباب الذين لم تفقس عنهم البيضة بعد، وأولئك الذين فقست وانتهت، وأولئك الذين يعودون إليها بحكم دورة الطبيعة. يتحرشون هكذا من فوق، بثقة مطلقة، وكتدريبات أولية على الإمساك بزمام الأمور وزمام المرأة.
يتحرشون من إحساس (طبيعي)- حقنته في أدمغتهم ثقافة البيت والمجتمع والإعلام الساقط- بأنهم يمتلكون تلك الفتاة التي عبرت الطريق أمامهم، يملكون جسدها (والمجتمع يملك الباقي: أما أبوها فيملك مصيرها) فيستبيحونه بالنظرات الثقيلات المتغلغلات الناشزات، ثم باللغة، بالكلام المخصص لخارج البيت، حيث جميع نساء الآخرين (لنا)!!…وحيث تستباح أعضاء المرأة استباحة مذلة..
والمتحرش ضليع بالجغرافيا، فهو دارس جيد للمواقع والأماكن والظروف… فالتحرش في الشارع العريض غير ذاك الذي في شارع ضيق، العريض واسع فضفاض, لذا لا بد من جَهْوَرة في الصوت والإيماءات لإسماع الضحية وإفهامها الغرض من وجودها في الحياة (إشباع رغبته)!! أما الطريق الضيقة فيمكن فيها التداني والتماس حد الالتصاق… في حين أن الضحية لا تستطيع أن تصرخ، فصوتها عورة، ولا أن تستنجد، فتجلب العار إلى العائلة… وليست على قوة في البدن، ولم تتعلم الكاراتيه وفنون الدفاع عن النفس, فهذه أفكار غربية لتحرر المرأة… ولا تملك الا أن تظل ضحية.
والمتحرّش خبير بالتاريخ، فهو دارس جيد للزمن ودورته؛ فتحرش الضياء غير تحرش العتمة, وتحرش النهار غير تحرش أول الليل وغير تحرش متأخرة. وثمة تحرّشٌ متخصص بأوقات المغادرة لمدارس البنات، وهذا يتمادى لاقتراح صداقة أولاً, ثم الباقي على الضحية وعلى الظروف وعلى شطارة المتحرِّش.
والمتحرشون (ديمقراطيون) في التحرش, فهم يعاملون النساء في الشارع - وحيثما يُتاح -على قدم المساواة، لا يوجد شيء اسمه صغيرة او شابة، أو شابة ومُسِنّة، أو سليمة الصحة أو على عكاز، ولا لجاهلة أو متعلمة أو (نصف نصف)…. فجميعهن حرثٌ مناسب لكل ذي طاقة فعّالة. وعلى سيرة الديمقراطية، فهنالك تحرّش غير ديمقراطي يتم داخل المكاتب والمؤسسات، يحكمه دائما مدير يشعر أنه يملك حق التحرش بمن يلينه من النساء، حقا غير مشروط (وهذا منه الشيء الكثير، ولا واحدة تفتح فمها)!! كما ثمة تحرش يكون في أرقى الأوساط العلمية، وفي الجامعات تحديدا، حيث قد يتطاول الزميل على زميلته, ومن المؤكد أن الأستاذ يستطيع أن يتمادى على تلميذاته ما دامت هيبته وخلل المؤسسة يحميانه.
هذا هو التحرش في مجتمع عربي ومسلم في مجموعه… فكيف السبيل الى وصف حالة التمرغ في الطين هذه؟ فإذا كان نصف المجتمع من الذكور، ونصف هذا النصف - على أقل تقدير- يتحرش، فإن النصف الآخر يتفرج ويعرف ولكنه يغض الطرف… وهذا يعني أن كامل نصف المجتمع من الذكور، شعبا وأجهزة حكم، ومجالس تشريعية وتنفيذية، متورط في جريمة يومية شنيعة. والأسوأ من ذلك والأفظع, أنه يضع "الحق" على الضحية لأنها خرجت من البيت، لأنها لبست أو لم تلبس, لأنها ذهبت إلى التعليم, لأنها اختارت في التعليم تخصصا لا يناسب المرأة, لأنها ذهبت الى العمل, لأنها تعمل في مجال ليس للنساء, لأنها ركبت المواصلات العامة, لأنها وقفت على الرصيف, لأنها نظرت, لأنها… لأنها… فأعطت المجال.
فما التحرش الجنسي؟ إنه أي فعل تُسْتَخْدَم فيه حاسة أو أكثر, أو وسيلة أو أكثر لإيصال فكرة أو كلمة أو معنى, وتحمل هذه الفكرة عدوانا على حرية المتحرَّش بها/ الضحية, أو كرامتها, والتحرش فعل اغتصاب مبدئي- على طريق الاغتصاب الكامل- يؤديه متدرب صغير أو محترف كبير, من أجل تفريغ طاقة الجنس السالبة التي غذاها الجوع الجنسي, وثقافة الكبت التاريخية..
وبعد،
والذي يحصل الآن: أن النساء قدتَحَجّبْنَ، ومع ذلك ازداد سُعار التحرش بهن حتى بات فضيحة ثقافية ومجتمعية تعقد له الندوات العلنية على الفضائيات العربية.
وأنَّ الذكور قصدوا المساجد حتى انسدت الطرق، ورفعوا شعارات الدين، وطوروا أساليبهم في الخطاب الوعظي وفي مؤسساته حتى بات الوعظ تجارة رائجة رابحة (برامج الوعظ على الفضائيات)، ومع ذلك فيبدو أن الذكور (النصف المتحرِّش, والنصف المتفرِّج) لم يدركوا حتى الآن أن الموضوع برمته موضوع جذري في التربية، وفي نمط الحياة، والعلاقة بين الجنسين منذ الصغر… وأنه موضوع ثقافة ينبغي أن تتحول الى أخرى مشبعة بقيم الحرية الشريفة، للطرفين، وباحترام الذات وحدودها, واحترام الأخرى والآخر وحدودهما….، ثقافة تحدد "الحَرَمَ" الإنساني، كما يُحَدَّدُ حرم المستشفى وحرم الجامعة.
فالكيان الإنساني- بمجرده- مقدّس لا يجوز تدنيسه بالتطاول والاعتداء والتحرش… وللأسف فإن مجتمعنا ما يزال يعتبر المرأة- في هذا السياق- منطقة حرة.
وبعد،
أنزيد الحجْرَ على الإناث؟ أم أنه دور الذكور أن يقرّوا في بيوتهم، ويريحوا المجتمع من شر طاقاتهم المخرِّبة؟ اقتراح ساخر, ولكنه للتداول..
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)