عبّادان


«مدينة عبّادان من المدن القديمة ويعود تاريخ بنائها إلى ما قبل الإسلام والعقود والقرون الأولى من ظهور المسيحية»، يذكر ذلك الجغرافي والمنجم الشهير اليوناني بطليموس الذي عاش في القرن الثاني الميلادي، حيث يضع عبادان في الإقليم الثالث بطول خمس وسبعين درجة وربع الدرجة وعرض واحد وثلاثين درجة.
ومما يعزز هذا القول، ما جاء علي لسان نبينا الأكرم صلى الله عليه وسلم عن مدينة عبادان، إذ يظهر لنا جلياً أن تاريخ بناء المدينة يرجع إلى ظهور سيدنا عيسى ابن مريم عليه السلام، أي منذ أكثر من 1900 عام.
قال النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم: «بابان مفتوحان في الجنة؛ عبادان وقزوين. قالوا الأصحاب: عبادان مُحْدث. قال: ولكنها أوّل بقعة آمنت بعيسى ابن مريم عليه السلام». وقال علي بن أبي طالب عليه السلام عن مدينة عبادان: أربعة في الدنيا من الجنة: إسكندرية، عسقلان، عبادان وقزوين.
أمّا فيمايتعلق بتسمية مدينة عبادان، فالرأي السائد عند غالبية الجغرافيين والمؤرخين مثل البلاذري، وياقوت الحموي، والمقدسي والحميري أنهم عزوا هذا الاسم إلى عبّاد بن حصين الذي عاش في عهد الحجاج بن يوسف الثقفي. هذا الرأي يستند إلى قول ابن الكلبي الذي قال: أوّل من رابط بعبادان كان عبّاد بن حصين. فإذا أخذنا بعين الاعتبار أن النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم يذكر اسم مدينة عبادان، يتبين لنا أن بناء مدينة عبادان أقدم من زمن الحجاج وعبّاد بن حصين، ومن هنا يظهر لنا جلياً أن بناء مدينة عبادان يعود إلى ما قبل الحجاج بن يوسف الثقفي. مما يؤيد هذا الرأي ما كتبه ابن الفقيه، في كتابه البلدان ويذكر أن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه المتوفى عام 23 هجرياً بعث رسالة إلى والي البصرة يكتب فيها أن عبادان إقليماً تابعاً للبصرة ويوكل إليه إدارة شئونها.
وسبب تسمية عبادان يرجع إلى عبادة أهل المدينة وعبَّاد (بفتح العَين وتشديد الباء)، صيغة مبالغة لكلمة «العابد» وتعني كثير العبادة، وبما أن أهل هذه البقعة كانوا زهادًا وعُبَّادا، أطلقوا عليها «عبادان» بمعنى «أرض العباد» أو محل إقامة العُبَّاد.
كما أسلفنا سابقاً أن النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم كان يشيد بعبادة أهل هذه البقعة ويعتبرهم من أهل الجنة، ويبشر علي بن أبي طالب عليه السلام أهلها بدخول الجنة، ويصف الجغرافي والرّحالة الشهير المقدسي، مدينة عبَّادان، والتي زارها في القرن الثالث الهجري، بقوله: «مدينة في جزيرة على البحر، فيها رباطات وعبَّاد وصالحون أكثرهم صناع الحصر، والنبي صلى الله عليه وسلم: قال عنهم، «من أدرك منكم عبَّادان فليرابط بها فإنها طينة من طين بيت المقدس حملها الطوفان أيام نوح».
أمّا الرّحالة المعروف ابن بطوطة الذي زار مدينة عبَّادان في القرن الثامن الهجري فيصفها بقرية كبيرة فيها مساجد ورباطات كثيرة وعلى شاطئ البحر يقع مقام خضر وإلياس عليهما السلام ومقابل هذا المقام تقع تَكيَّة يسكنها أربعة دراويش مع أولادهم إذ يقومون بسدانة ذلك المقام ويعيشون من خلال النذورات التي تصل إليهم من كل حدب وصوب.
مدينة المساجد
يذهب إلى هذا القول مؤلف كتاب «آثار البلاد وأخبار العباد» ويصف عبَّادان بمدينة المساجد والتكايا والرباطات ومقام الصالحين، التي يقصدونها الزوّار من النواحي المجاورة.
إن ياقوت الحموي بعد تسمية المدينة، يقول في أهلها «هذا الموضع فيه قوم مقيمون للعبادة والانقطاع».
أصل الاسم
إنَّ ما كتبه الجغرافيون والرَّحالة يبين لنا أن عبادان مدينة العبَّاد والصالحين وهذا الأمر يؤيد ويبرهن لنا صحة الحديث المنسوب للرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم عن وَرع وعبادة أهلها.
أمّا فيما يتعلق بإلحاق «الألف والنون» المضافين في نهاية مفردة «العَبَّاد»، فيقول ياقوت الحموي: هو لغة مستعملة في البصرة ونواحيها، إنهم إذا سمّوا موضعاً أو نسبوه إلى رجل أو صفة يزيدون في آخره ألفاً ونوناً كقولهم في قرية عندهم منسوبة إلى زياد ابن أبيه «زيادان» وأخرى إلى عبدالله «عبدالليان» وأخرى إلى بلال بن أبي بُرّدة «بلالان».
ينبغي القول إن بعض المفردات العربية تجمع بالألف والنون مثل «البيضان» وهي جمع البيض أو الحُمران وهي جمع الأحْمَر أو السودان هي جمع الأسود واسم الجمع يطلق على محل توطينهم، وأطلق على بلدهم وسُمِي بلدهم بهذا الاسم وقد تكون تسمية مدينة عبّادان جاءت من هنا وهذا التعبير لا يختلف عما كتبه ياقوت الحموي.
ياقوت الحموي في وصفه لمدينة عبّادان يصفها بأنها تقع في جزيرة فيها مشاهد ورباطات وهي موضع رديء سبخٌ لا خير فيه وماؤه ملح، فيه قوم منقطعون عليهم وقفٌ في تلك الجزيرة يعطون بعضه، وأكثر موائدهم من النذور، وفيه مشهد لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وغير ذلك، وأكثر أكلهم السمك الذي يصطادونه من البحر، ويقصدهم المجاورون في المواسم للزيارة، ويروي في فضائلها أحاديث غير ثابتة. كما يذكر لنا المقدسي عن عبّادان أنها «مدينة في جزيرة وليس وراءها بلد ولا قرية»، هذا الوصف ينطبق تماماً على مدينة عبّادان الحالية التي تقع في مصّب شط العرب وليس وراءها قرية أو مدينة.
بين النهرين
أمّا ابن خرداذبه والذي عاش في القرن الثاني للهجرة يصف لنا موقع عبّادان الجغرافي بشكل ينطبق مع موقعها الحالي الواقع في جزيرة والذي يبعد عن البصرة باثني عشر فرسخًا. ويذكر لنا مؤلف كتاب «الروض المعطار في خبر الأقطار» هذه المسافة بين البصرة وعبّادان أي باثني عشر فرسخاً ويكتب عن شهرة الحصير العبّاداني الذي كان ينتج من بردي عبّادان. كما يؤيد ابن الفقيه موقع عبّادان الجغرافي حين يصف ناحية البصرة. ويكتب لنا مؤلف كتاب «حدود العالم من المشرق إلى المغرب» موقعها الواقع على شاطئ البحر وذلك في معرض حديثه عن بلاد العراق ومدنها.
مما لا شك فيه أن موقع عبّادان الحالي ينطبق تماماً مع ما كتبه علماء الجغرافيا والرّحالة، فبالإضافة إلى ما جاء آنفاً فإن ياقوت الحموي يصف موقع عبّادان الجغرافي في جزيرة، تحت البصرة قرب البحر، بأنّ مياه نهر دجلة تحيط بهذه الجزيرة، والعجم يسمّونها «ميان روذان» لما ذكر من أنها بين نهرين.
والشاعر المعروف ناصر خسرو والذي زار مدينة عبّادان في القرن الخامس الهجري يذكر موقع عبّادان الجغرافي، إذ جاءها من البصرة راكباً زورقاً ومرّ بها حتى وصل إلى الناحية الشرقية. وكتب عنها ابن حوقل في القرن الرابع الهجري وذكر موقعها الجغرافي.
ازدهرت مدينة عبّادان في العهد العباسي حيث برز علماء من هذه المدينة مثل أحمد بن سليمان العبّاداني الذي ولد في رجب عام 248 هـ، والقاضي أحمد بن الحسن الشافعي العباداني المولود عام 434 هـ، والرّحالة المعروف حسن بن سعيد العبّاداني المقرئ.
بعد الدمار والخراب الكامل الذي لحق بكور الأحواز في القرن الثامن الهجري، دمّرت مدينة عبّادان كباقي مُدن هذه البقعة مثل البيان (المحمرة الحالية)، أُبُّله، حصن مهدي، سوق الأهواز، سوق الأربعاء، عسكر مُكْرَم، مناذر الصغرى، نهرتيري، الكلبانية، المختارة، خشبات (أو الخشّاب)، واندرست المدينة ولم يبق لها أي أثر، لهذا السبب لم نعثر على اسم هذه المدينة في الكتب التاريخية والمصادر الجغرافية بعد القرن الثامن الهجري. كما لم يذكر اسم هذه المدينة أواسط القرن التاسع الهجري عند وصول سيد محمد المشعشع مؤسس سلالة المشعشعين عام 845 هـ إلى سدة الحكم، ولم نقرأ عنها في خضم معارك المشعشعين للسيطرة على مدينة البصرة. بعد ذلك وفي فترة حكم الديريين على البصرة وإقامة حكم بني كعب، نقرأ عن القبان والفلاحية ولا نقرأ شيئاً عن مدينة عبّادان. وفي عهد شيخ غيث الكعبي عام 1243 هـ (1827 ميلادي) ذكَر اسم قرية البريم والتي هي حالياً جزء من مدينة عبّادان ولم يذكر اسم عبّادان.
بعد الدمار
كما يبدو أنه بعد الدمار الذي لحق بمدينة عبّادان، انطمس اسم المدينة ولم يبق لها أثر، ولكن في القرن العاشر الهجري بنى الأهالي على أنقاض المدينة المدمّرة بيوتاً وأعاد الحاج محمود، المعروف بحاج محمود القيم بناء مقام الخضر في موقعه السابق عام 920 هـ، وأصبحت مدينة عبّادان قرية صغيرة بعد ذلك الدمار، وانمحق اسم مدينة عبادان من الكتب والمصادر التاريخية وبرز اسم «الخضر» وسمّيت تلك البقعة بجزيرة الخضر بدلاً عن عبّادان، في حين نرى أن بعض المؤرخين ذكروها بجزيرة «المحرزي».
بعد اكتشاف النفط في بئر نفطون بمدينة «مسجد سليمان» عام 1908 وقرار البريطانيين بإنشاء مصفى لتكرير النفط في جزيرة الخضر في عهد الشيخ خزعل بن جابر وبعد مفاوضات طويلة مع الشيخ وإبرام اتفاقية بهذا الخصوص، استأجر البريطانيون قطعة من أراضي الشيخ في جزيرة الخضر وشيدوا بجوار قرية عبّادان مصفاة للنفط، فبعد ذلك ظهر اسم «عبّادان» من جديد وطويّ اسم جزيرة الخضر.
ازدهرت عبّادان أوائل القرن المنصرم وبالتحديد بعيد عام 1909 وبعد عقد أصبحت من أهم المدن في الخليج، بنيت فيها منشآت ومستحدثات وبيوت على نمط بيوت الأوربيين وعُبدت الطرق والشوارع وأضيئت بقناديل كهربائية، وبدأت الهجرة لمدينة عبّادان من مُدُن إيران الجنوبية وجاء البريطانيون بعمال من الهند وبريطانيا، حيث أصبح عدد سكان المدينة عام 1921 ثلاثين ألف نسمة. صمّمت المدينة على طراز المدن البريطانية وبنى البريطانيون بنايات جديدة إدارية وأخرى للموظفين من ذوي الرتب الرفيعة. وفي أواخر عهد الشيخ خزعل بن جابر بنيّ في المدينة ثمانين محلاً تجارياً واتصلت المدينة بمدينة الأحواز على بعد 120 كم وبمدينة مسجد سليمان على بعد 230 كم بشبكة اتصالات سلكية.
فبعد أن قرر البريطانيون إنهاء حكم الشيخ خزعل، وعلى إثر ذلك تم دخول قوات رضاخان وأسر الشيخ خزعل إلى طهران في عام 1925م، بقي اسم المدينة عبّادان. بعد عشر سنوات أي عام 1935م، استبدل نظام رضا خان اسم «عبّادان» باسم فارسي يُسمى «آبادان»، وهذا الاسم أصبح ساري المفعول في السجلات والكتب الرسمية الإيرانية ولكن لم يغيِّر الناس اسم عبّادان وبقيت «عبّادان».

عبدالنبی قیم
المصدر : مجله العربی الکویتیه