حضرة الأديبة الفاضلة.
قد فكرت بأمور كثيرة في تلك الشهور الخرساء التي مرت بدون خطاب ولا جواب ولكنه لم يخطر على بالي كونك " شريرة" أما الآن وقد صرّحت لي بوجود الشر في روحك فلا يجمل بي سوى تصديقك فأنا أصدق وأثق بكل كلمة تقولينها لي ! أنت بالطبع تفتخرين بقولك – أنا شريرة – ويحق لك الافتخار لأن الشر قوة تضارع الخير بعزمها وتأثيرها . ولكن اسمحي لي أن أقول لك مصرحاً بأنك مهما تماديت بالشر فلا تبلغين نصف ما بلغته فأنا شرير كالأشباح الساكنة في كهوف الجحيم بل أنا شرير كالروح السوداء التي تحرس أبواب الجحيم ! وأنت بالطبع ستصدقين كلامي هذا !.
غير أنني للآن لم أفهم الأسباب الحقيقية التي دعتك إلى استخدام الشر ضدي فهلا تكرمت بافهامي ؟ قد أجبت على كل رسالة تكرمت بها عليّ واسترسلت متعمقاً بمعاني كل لفظة تعطفت بهمسها في أذني فهل هناك أمر آخر كان يجب عليّ أن أفعله ؟ أو لم تبدعي لي من " لا شيء" ذنباً لتبيني لي مقدرتك على الاقتصاص ؟ لقد فلحت وأحسنت البيان , أما أنا فقد آمنت باقنومك الجديد الكلي المطلق الجامع بين أسياف " كالي" ربة الهند وسهام " ديانا" معبودة الأغريق .
والآن وقد فهم كل منا ما في روح الآخر من الشر والميل إلى الاقتصاص فلنعد إلى متابعة الحديث الذي ابتدأنا به منذ عامين . كيف أنت وكيف حالك ؟ هل أنت بصحة وعافية ( كما يقول سكان لبنان )؟ هل خلعت ذراعاً ثانية في الصيف الماضي أم منعتك والدتك من ركوب الخيل فعدت إلى مصر صحيحة الذراعين ؟ أما أنا فصحتي أشبه شيء بحديث السكران وقد صرفت الصيف والخريف متنقلاً بين أعالي الجبال وشواطئ البحر ثم عدت إلى نيويورك أصفر الوجه نحيل الجسم لمتابعة الأعمال ومصارعة الأحلام – تلك الأحلام الغريبة التي تصعد بي إلى قمة الجبل ثم تهبط بي إلى أعماق الوادي .
وقد سررت باستحسانك مجلة الفنون فهي أفضل ما ظهر من نوعها في العالم العربي , أما صاحبها فهو فتى عذب النفس دقيق الفكر وله كتابات لطيفة وقصائد مبتكرة ينشرها تحت اسم " ليف" ومما يستدعي الإعجاب بهذا الشاب هو أنه لم يترك شيئاً مما كتبه الافرنج إلا وعرفه حق المعرفة . أما صديقنا أمين الريحاني فقد ابتدأ بنشر رواية جديدة طويلة في مجلة فنون وقد قرأ لي أكثر فصولها فوجدتها جميلة للغاية ولقد أخبرت صاحب الفنون بأنك سوف تبعثين إليّ بمقالة ففرح وبات يترقب .
بكل أسف أقول انني لا أحسن الضرب على آلة من آلات الطرب ولكنني أحب الموسيقى محبتي الحياة ولي ولع خاص بدرس قواعدها ومبانيها والتعمق بتاريخ نشأتها وارتقائها , فان ابقتني الأيام سأكتب رسالة طويلة في الدوائر العربية والفارسية وكيفية ظهورها وتدرجها وتناسخها .
ولي ميل للموسقى الغربية يضارع ميلي للأنغام الشرقية فلا يمر أسبوع إلا وأذهب مرة أو مرتين إلى الأوبرا غير أني أفضل من البيان الموسيقي الأفرنجي تلك المعروفة بالسنفوني والسوناتا والكنتاتا على الأوبرا والسبب في ذلك خلوّ الأوبرا من البساطة الفنية التي تناسب أخلاقي وتتمايل مع أميالي . واسمحي لي الآن أن أغبط يدك على عودك وعودك على يدك وأرجوك أن تذكري اسمي مشفوعاً باستحساني كلما ضربت نغم النهوند على الأوتار فهو نغم أحبه ولي رأي فيه يشابه رأي " كارليل في النبي محمد ". ( كارلايل : أديب ومؤرخ انكليزي درس بعضا من العربية في جامعة كمبردج سنة 1795 وكتب عن النبي محمد فصلا ضمنه إعجابه بشخصيته البطولية في مؤلفه " الأبطال , عبادة الأبطال , والبطولة في التاريخ "
وهلا تكرمت بذكري أمام هيبة أبي الهول ؟ عندما كنت في مصر كنت أذهب مرتين في الأسبوع واصرف الساعات الطوال جالساً على الرمال الذهبية محدقاً بالأهرام وكنت في ذلك العهد صبياً في الثامنة عشرة ذا نفس ترتعش أمام المظاهر الفنية ارتعاش الأعشاب أمام العاصفة , أما أبو الهول فكان يبتسم لي ويملأ قلبي بحزن عذب وندبات مستحبة .
أنا معجب مثلك بالدكتور شميل فهو واحد من القليلين الذين انبتهم لبنان ليقوموا بالنهضة الحديثة في الشرق الأدنى وعندي أن الشرقيين يحتاجون إلى أمثال الدكتور شميل حاجة ماسة كرد فعل للتأثير الذي أوجده الصوفيون والمتعبدون في القطرين مصر وسوريا .
هل قرأت الكتاب الفرنساوي الذي وضعه خير الله افندي خير الله ؟ أنا لم أره بعد وقد أخبرني صديق أن في الكتاب فصل عنك وفصل آخر عني فإذا كان لديك نسختان تكرمي بإرسال نسخة منهما إليّ وأجرك على الله .
ها قد انتصف الليل فليسعد الله مساءك ويبقيك للمخلص ...!!
جبران خليل جبران
..............................
عزيزتي الآنسة مي .
لقد أعادت رسالتك إلى نفسي ذكرى ألف ربيع وألف خريف وأوقفتني ثانية أمام تلك الأشباح التي كنا نبتدعها ونسيرها موكباً إثر موكب . تلك الأشباح التي ما ثار البركان ( يقصد بذلك الحرب العالمية الأولى ) في أوربا حتى انزوت محتجبة بالسكوت – وما أعمق ذلك السكوت وما أطوله .
هل تعلمين يا صديقتي أنني كنت أجد في حديثنا المتقطع التعزية والأنس والطمأنينة , وهل تعلمين بأنني كنت أقول لذاتي هناك في مشارق الأرض صبية ليست كالصبايا قد دخلت الهيكل قبل ولادتها ووقفت في قدس الأقداس فعرفت السر العلوي الذي تخفره جبابرة الصباح ثم اتخذت بلادي بلاداً لها وقومي قوماً لها , هل تعلمين بأنني كنت أهمس هذه الأنشودة في إذن خيالي كلما وردت عليّ رسالة منك ؟ لو علمت لما انقطعت عن الكتابة إليّ- وربما علمت فانقطعت وهذا لا يخلو من أصالة الرأي والحكمة .
أما مقالة أبي الهول فالسماء تعلم بأنني لم أطلبها منك إلا بعد إلحاح مستمر من صاحب مجلة الفنون – سامحه الله . فان من طبعي استهجان اقتراح المواضيع على الأدباء خصوصاً تلك الفئة القليلة التي لا تدون إلا ما توحيه الحياة إليها – وأنت من تلك الفئة القليلة – وفوق ذلك فأنا أعلم أن الفن يطلب ولا يطلب منه , وأن في نفس اقتراح المواضيع شيئاً مانعاً عن الإجادة فيها , فلو كتبت إلي في ذلك الزمن قائلة " لا ميل لي الآن إلى كتابة مقالة في أبي الهول " لقلت مترنماً :
" لتعش ميّ طويلا فهي ذات مزاج فني لا غش فيه " الخلاصة أنني سأسبقك في كتابة مقالة , في ابتسامة أبي الهول ! وبعد ذلك سأنظم قصيدة في ابتسامة ميّ ولو كان لدي صورتها مبتسمة لفعلت اليوم , ولكن عليّ أن أزور مصر لأرى ميّ وابتسامتها . وماذا عسى أن يقول الكاتب في ابتسامة المرأة؟ أفلم يقل ليونردو دافنشي آخر كلمة في الموضع عندما انتهى من صورة " لا جوغندا " ؟ , ولكن, أليس في ابتسامة الصبية اللبنانية سر لا يستطيع ادراكه واعلانه غير اللبناني , أم هي المرأة لبنانية كانت أم ايطالية تبتسم لتخفي أسرار الأبدية وراء ذلك النقاب الرقيق الذي تحوكه الشفاه .
والمجنون ( أول مؤلفات جبران باللغة الانكليزية ) وماذا يا ترى أقول لك عن المجنون ؟ أنت تقولين أن فيه ما يدل على " القسوة" بل وعلى " الكهوف المظلمة" . وأنا الآن لم أسمع مثل هذا الانتقاد مع انني قرأت الكثير مما نشرته جرائد ومجلات اماركا وانكلترا في هذا الكتاب الصغير . والغريب أن أكثر الأدباء الغربيين قد استحسنوا القطعتين :
My Minds
و
The Sleep Walkers
( مقالتان لجبران , عقلي والسائرون في نومهم )
واستشهدوا بهما أو ذكروهما بصورة خاصة . أما أنت يا صديقتي فقد وجدت فيهما القسوة – وماذا ينفع الانسان إذا ربح استحسان العالم وخسر استحسان ميّ ؟ وقد يكون ارتياح هؤلاء الغربيين إلى المجنون واخيلته ناتجاً عن مللهم أخيلة نفوسهم وعن ميلهم الطبيعي إلى الغريب والغير مألوف خصوصاً إذا كان شرقي المظاهر . أما تلك الأمثال والقصائد المنثورة التي نشرت في الفنون فقد ترجمها عن الأصل الانكليزي أديب محبته لي أوسع قليلا من معرفته بدقائق البيان الانكليزي .