لأول مرة يدلى جمال مبارك بحديث صحفى مطول بشكل يقدم لنا صورة واضحة عن فكره و طريقة عمله. و جمال مبارك شخصية يحيط بها الكثير من الغموض نظرا لبعده عن اللقاءات الاعلامية و نظرا لقلة تصريحاته ، و لذلك جاء هذا الحوار مع جريدة روز اليوسف و الذى امتد لخمس ساعات فرصة جيدة للتعرف على الرجل الذى ترتبط به كثير من سياسات الحكومة و يعتبر من الدائرة الصغيرة التى تحيط بعملية صنع القرار فى مصر.
و الحوار بشكل عام يعطى صورة ايجابية عن جمال مبارك ففكره يبدو متوازنا و عنده وضوح فى الرؤية لما يريد أن يحققه للحزب الوطنى و لا يتردد بقبول المسئولية عن الأخطاء و نظرته للرجال المحيطين به تتسم بالاحترام. و هذه كلها جوانب تعوض شيئا من الخبرة المفقودة عنده و التى لا تتعدى السنوات القليلة التى قضاها فى أمانة السياسات بالحزب الوطنى.
و بقدر ما استفاد جمال مبارك من علاقته بالرئيس فى القفز السريع لهذا الموقع المؤثر فإن الرجل سيظل يعانى من هذه العلاقة التى ستخيم دائما على أى انجازات يحققها ، و مهما حاول أن يصرف الأنظار عن " شخصنة " القضايا المهمة التى يحاول التصدى لها فإن طبيعة علاقته بالرئيس ستفرض نفسها فى الحكم عليه و على جهوده.
هذه ملاحظات تفصيلية على حوار جمال مبارك :
1. من الواضح أن الهم الاقتصادى هو شغله الشاغل ، و من الانصاف أن نرى انجازات لجنة السياسات فى هذا الشأن فجو الاستثمار يتحسن و مشكلة العملة الصعبة المزمنة اختفت أو كادت ، و التشريعات الضريبية و الجمركية انجاز فى حد ذاته. و كنت أتمنى أن المحاوِر الضعيف الذى تشبه أسئلته الأكلشيهات السابقة التجهيز ، أن يثير مسألة النظرة العامة للاقتصاد المصرى- و التى يتعامل معها جمال مبارك بعقلية أقرب ما تكون لعقلية رجال الأعمال و ليس بعقلية السياسى ، و لذلك غاب عن سياسته الدخول فى عمق المشكلة الاقتصادية ، فالقاعدة الصناعية و الزراعية لمصر محلك سر – إن لم تكن تتراجع – و الصناعة و الزراعة هما القاعدة الصلبة لاقتصاد دولة فى حجم مصر. إن تدارك الفساد الواسع الذى تم فى الزراعة على يد يوسف والى و الإهمال البشع الذى أصاب قطاع الصناعة عبر ثلاثين سنة مهمة شاقة و تحتاج لنفس طويل و لكن المشكلة أنها غير مطروحة على أجندة لجنة السياسات فيما يبدو.
2. تبرأ جمال مبارك أكثر من مرة من " تهمة " تدخله فى اختيار الوزراء ، و لا أرى كيف لا يكون له رأى فى الوزراء الذين ينفذون السياسات القادمة من معمل لجنة السياسات فى الحزب ؟
3. لم يكن جمال مبارك مقنعا فى دفاعه عن تعديلات المادة 76 من الدستور خاصة فيما يتعلق بالقيود على الترشح لانتخابات الرئاسة فى عام 2011 مع أنه يرى الآن أن الأحزاب القائمة – خلاف الحزب الوطنى – لا تملك مجتمعة شرط الـ 5% اللازمة للترشح ، و هو ما يعنى أنه إذا أقيمت الانتخابات فى 2011 أو قبلها – و هذا وارد – فلن يكون هناك إلا مرشح الوطنى.
4. تعجبت جدا من إغفال الحوار الطويل عن الاقتراب من الأزمة الدينية فى مصر ، و برغم أن العالم كله الآن يريد أن يصل إلى حل للأزمة الفكرية بين الاسلام و الغرب و التى ينبغى أن يكون لمصر – بحكم موقعها الدينى و الثقافى – دور رئيسى فى تناولها و علاجها ، فإن جمال مبارك – و الحكومة و برنامج الوطنى و قبله برنامج مبارك الانتخابى – تحاشى أن يخوض فى هذه المنطقة برمتها. و يبدو أن السبب وراء ذلك هو ببساطة أنه لا يملك تصورا لماهية الأزمة فضلا عن إيجاد حلول لتعاطيها أو لحلها. و السؤال الوحيد الذى قدمه المحاور الضعيف كان عن الموقف من " حصار التطرف الدينى " مما خنق الكلام و حدده فى موضوع الإخوان و الانتخابات الأخيرة و كان تعليق جمال مبارك : ( والله هناك موقف قانوني كلنا نعرفه.. الجماعة ليس لها وضع قانوني أو شرعي.. وبالتالي لابد من الناحية القانونية والشرعية أن نتعامل معها علي هذا الأساس.. هناك وضع آخر وأعتقد أنه ظهر في انتخابات مجلس الشعب الأخيرة وهو محاولة الالتفاف حول القوانين الموجودة للانخراط في الحياة السياسية، والأكثر من ذلك هو الاستغلال القوي للدين والشعارات الدينية والمنطلق الديني لتحقيق مكاسب سياسية، وأعتقد أن الموقف القانوني والشرعي واضح لنا جميعًا.. ) اهـ .. و هو تعليق أقرب للتصريحات الحكومية الرسمية و لم يقترب من المعالجة السياسية لهذه الأزمة.
5. محاولة جمال مبارك دائما تجنب الحديث عن شخصيات عامة بالاسم يجعل الحوار يتسم بدرجة عالية من التهذيب و الأدب و اللياقة و اللباقة ، و لكن حين يتصل الأمر بشخصيات عامة لها ذكريات مريرة عند عامة الشعب مثل كمال الشاذلى و الذى لاقى خروجه من الحكومة ارتياحا عاما ، عندما يتكلم عنه جمال مبارك الآن و يقول : ( .. كذلك أحب أن أضيف أن الأستاذ كمال الشاذلى الأمين العام المساعد وأمين التنظيم كان ايضاً من القيادات الداعمة لحركة الإصلاح داخل الحزب بعد أن إقتنع بها وتم إقرارها فى المؤتمر العام الثامن للحزب عام 2002، ولكنه – كما تعرفه – هو محاور وسياسى مخضرم وقد أخذ يتناقش معنا مطولاً ويستفسر ويتعمق فى الحوار ويستمع لكافة الآراء ويناقشها الى أن استقر الرأى وبدأت الخطوات بإتجاه الإصلاح بعد المؤتمر العام الأخير.... ) اهـ .... ، فهذا التعليق لم يكن مناسبا على الاطلاق و إلا كان ينبغى لهذا الرجل أن يستمر فى موقعه القيادى بالحزب الوطنى طالما يحمل هذه الصفات القوية الداعمة للاصلاح .. و هو ما ينكره الواقع و ما يعرف ضده القاصى و الدانى.
6. كلام جمال مبارك عن اصلاح قطاع الصحة كشف عن فكر منهجى يهدف إلى حل المشكلة من جذورها و ينظر إليها بشمولية لإعادة هيكلة المنظومة الصحية كلها و لا يكتفى بالحلول الجزئية و المسكنات التى لا تلبث أن يضيع مفعولها و تضيع معها الجهود و الميزانيات التى لا أثر لها. و جاء شرحه لهذه السياسة مقتنعا و مقنعا حين قال " لأنك لا تستطيع أن تطور نظام التأمين الصحي لا في الجزء المالي الخاص به، ولا في جزء تطوير الخدمة، دون تغيير هيكلي في منظومة الصحة في مصر كلها بدءاً من دور الوزارة والمؤسسات العلاجية والدور الرقابي والوحدات الصحية الأساسية والتي شهدت تركيزاً كبيراً في السنوات الماضية، وموضوع طبيب الأسرة وكيفية دمجه بعد ذلك في إطار أوسع.." اهـ.
7. أما النواحى الشخصية التى تطرق لها الحوار كعلاقة جمال بالرئيس و هواياته و عمله الخاص ببنك أوف أمريكا ثم فى شركة المجموعة المالية هيرمس للإستثمار المباشر و مسألة تأخر زواجه و قد تخطى الأربعين من عمره ، أعتقد أن كل هذه الجوانب لم يكن من الحكمة إثارتها و تسليط الضوء عليها فهى جوانب شخصية لا تصب فى صالح رجل يتطلع للقيام بدور بارز فى الحياة العامة. كيف يسلط الضوء على مراحل فى حياته الشخصية وهذه عناوينها :
· عزف عن الدراسة بالجامعات الوطنية و درس بالجامعة الأمريكية.
· عمل فور تخرجة فى بنك أوف أمريكا.
· عمل فى بريطانيا لمدة عشر سنوات.
· تأخر زواجه لما بعد سن الأربعين.
فهذه جوانب لا تليق بابن رئيس الجمهورية عموما ، فإذا كان يجرى تأهيله للعب دور أساسى فى الحياة السياسية فى مصر فإن هذه الجوانب تلقى بظلال سلبية تماما.
8. من المفارقات أن يختار جمال مبارك روز اليوسف محطة لأول تواصل واسع مع الرأى العام ، و روز اليوسف معروفة بعدائها الشديد لكل توجه اسلامى و حتى الرموز الاسلامية التى تجتهد بعيدا عن حلبة السياسة – مثل الأستاذ عمرو خالد و الدكتور زغلول النجار – لم تسلم من حملات المجلة للتشهير بها ، من المفارقات أن تكون المجلة المكان الذى يطالعنا منه جمال مبارك ، فإن كان لهذا الاختيار مغزى سياسى فبئس المغزى يكون و إن لم يكن وراءه أى مغزى فتكون سقطة اعلامية و سياسية فى آن واحد.
من حق جمال مبارك أن يخرج و يبتعد عن عباءة الرئيس و أن يسعى لتحقيق انجازات شخصية يتميز بها ، و اختياره ليكون رمزا للاصلاح و الفكر الجديد داخل الحزب الوطنى اختيار يتسم بالذكاء و قوة الطرح ، و لكن أمام الشعب المصرى سيحتاج الأمر إلى جهود و نتائج باهرة حتى يقتنع أن جمال مبارك قد خرج بالفعل بعيدا عن عباءة الرئيس.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)