في زمن "العلم للجميع" بدا التعليم وكأنه فرس الرهان الأخير وحجة جاهزة التحضير في يد البنات للهروب من غياهب سجن "العنوسة"اللعين..
وبعد أن كانت العنوسة كابوس كآبة تطبق بأحرفها الخمسة القاسية على الأنثى في وسط اجتماعي لا يرحم يجلدها في كل لحظة لم تعد العنوسة قدراً إجبارياً وإنما خيار حر حتى ولو كان يسير على مبدأ "عصفور في اليد في انتظار عريس لم يأت بعد" بفضل إلتحاق خريجات الجامعة اللاتي لم يحالفهن الحظ بالزواج بركب الدراسات العليا، والأهم أنهؤلاء لا يتوانين عن التهافت على العودة إلى مقاعد الدراسة بعد التخرج واللهاث وراء تحصيل الدرجات العلمية ليعلنّها وبكل ثقة: "ها نحن ذا لا ينقصنا شيء في الحياةحتى لو كان العريس"..!!
بين نار العنوسة وجنة الدراسات العليا الموعودة تتأرجح آراء ومواقف الفتيات اللاتي اتخذن قرار خوض غمار المزيد من الحياة العلمية بين جدران الجامعة بعضها ينم عن اقتناع كامل بأهمية هذه المرحلة والبعض الآخر ينظر إليها من خرم إبرة حيث الملاذ الآمن وطوق النجاة الوحيد للإفلات من شبح العنوسة الرهيب..؟!!
رانيا محسن كلية الإقتصاد والعلوم السياسية_جامعة القاهرة واحدة من أولئك اللاتي انخرطن في سلك الدراسات العليا بعد التخرج بثلاثة أعوام لظروف تأخر الزواج واجتازتاختبارات السنة التمهيدية للماجستير لكنها توقفت فجأة وبررت ذلك بقولها: "بمجرد أن تمت خطبتي وحصلت على وظيفة في إحدى الشركات الإستثمارية قررت التوقف عن الدراسة وهو ما أكد لي أنني بالفعل لم أكن أنوي استكمال المشوار والحصول على درجة الماجيستير مستقبلاً بل كانت محض محطة مؤقتة لإلتقاط الأنفاس وإعادة ترتيب الأوراق وانتظار الفرصة المناسبة سواء في العمل أو الزواج"..!!
وتسرد مروة أحمد طالبة بتمهيدي الماجستير كلية الآداب _ جامعة القاهرة من واقع تجربتها الخاصة أسرار وخبايا إقبال بنات اليوم على الإلتحاق بالدراسات العليا قائلة:"بصراحة شديدة .. لقد تقدمت للحصول على درجة الماجستير لأنني لم أجد فرصة عمل مناسبة عقب التخرج أو يدق ابن الحلال الباب، فلم يكن أمامي من خيار سوىاستكمال دراستي أو الجلوس في البيت ومن ثم اعتبرت الإلتحاق بالدراسات العليا بمثابة العمل الذي يمنحني شعوراً وإحساساً معنوياً ونفسياً بالإنتساب إلى جهة ما ولكني لاأتوقع استكمال المشوار إذ تنتابني نية ترك الجامعة على الفور بمجرد الحصول على فرصة عمل أو الزواج..!!"
وتضيف مروة: "إن معظم الفتيات لا يلجأن إلى استكمال الدراسات العليا من أجل اكتساب العلم وتحضير الماجستير والدكتوراة لأغراض علمية بحتة فحسب ولكن هناك أسباباً أخرى تقف وراء استفحال هذه الظاهرة خلال الفترة الأخيرة أهمها قلة فرص العمل وارتفاع سن الزواج جراء الظروف المادية الصعبة مما يجعل اتجاههن للدراسة في تلك الحالة بمثابة إهدار للوقت فيما لا يفيد وليس من باب تحصيل العلم مثلما يتوهم البعض بدليل أن نسبة كبيرة جداً من هؤلاء الفتيات لا يستمر بهن الحال في التسجيل لنيل درجات الماجيستير والدكتوراة وبمجرد الحصول على فرصة عمل أو الزواج ينتهي الأمر..!!"
وفي الطرح ذاته ترى فرح سمير أن المجتمع يظلم الفتاة التي تتجاوز الثلاثين دون زواج حينما يطلق عليها لقب "عانس" مما قد يدفع بها إلى الإنشغال أو الإنخراط في صفوف الدراسات العليا أملاً منها في تجاوز هذه الأزمة النفسية والمجتمعية، وتقول مدافعة: "ليس بالضرورة أن تكون الفتاة التي انخرطت في تحقيق طموحاتها العلمية وتخطاها العمر دون زواج فيها عيب أو مشكلة إذ أن لفظ "عانس" التي يحلو للبعض أن يطلقوها على الفتيات هي فقط من قبيل إفساد حياتهن وتذكيرهن بأن فيهن عيباً كمايدل على محدودية في التفكير لكن بكل أسف يبدو لي أننا إذا أردنا مسح لقب عنوسة من قاموسنا فإننا سنكون كمن يحفر في الصخر"..
ولا تشعر فرح التي تخطت سن الخامسة والعشرين وتعكف حالياً على المذاكرة لنيل درجة الماجستير من كلية الإعلام أبداً بالقلق على وضعها بخلاف أفراد أسرتها الذين لايؤيدونها في موقفها ويفضلون أن تتفرغ لرعاية شئون الأسرة والمنزل لكنها تصر على آرائها طالما أن القسمة والنصيب لم يطرقا بابها بعد..
في المقابل تفخر رشا علي _ كلية الألسن بعزوفها عن الزواج في سبيل العلم قائلة: "أنتمي إلى أسرة متنورة متفهمة، لا تؤمن بزواج الفتيات دون تسليحهن بالعلم والمعرفة أولاً لأن ذلك من وجهة نظرهم هو ما يجعل البنت ناضجة وواعية بما فيه الكفاية لتكوين أسرة صالحة"..
وعلى هذا الأساس تؤكد رشا أن أسرتها غير منزعجة لوضعها الحالي بل تشجعها على السعي إلى إثبات ذاتها أكثر وأكثر إلى أن يأتيها القسمة والنصيب مضيفة "أستطيعالقول أن لقب عانس لم يعد يؤثر حالياً في الفتيات خلافاً لما كان عليه الوضع في السابق إذ أصبحت عبارة "غير متزوجة" لا تسبب لهن الإحراج أو الخجل نتيجة وجود بدائل كثيرة تملأ عليهن حياتهن أهمها التحصيل الأكاديمي والخروج إلى العمل"..
وتتفق سمراء أحمد كلية التجارة_جامعة القاهرة في أن العلم والعمل هما سلاحا الفتاة اليوم مضيفة "لقد انقرض لقب عانس في زمن تعلم المرأة وخروجها للمشاركة مع الرجل كتفاً بكتف.."
وحين سألنا سمراء ما إذا كانت اهتماماتها العلمية وراء تأحر زواجها أجابتنا: "ربما، فمنذ صغري ركزت كل اهتمامي على الدراسة، ولقد نجحت في السنة التمهيدية للماجستير بتقدير جيد جداً وأعكف حالياً على مناقشة موضوع الرسالة قريباً"..
وتشير سمراء إلى أن الفتاة في السابق كانت عبئاً على أهلها بجلوسها في البيت "عاطلة" أو بمعنى أدق "لا شغلة ولا مشغلة" مما يجعل الشغل الشاغل لأهلها هو التخلص من هذا العبء بتزويجها وتحميل مسئولياتها إلى رجل آخر يمكن أن يوفر لها العيش والأمان بيد أن هذه النظرة قد تبدلت وتغيرت كثيراً خلال السنوات الأخيرة حيث أصبحت طاقات العلم مفتوحة على مصراعيها أمام أي فتاة ترغب في الحصول على شهادة عليا وما فوق وأصبحت البنات أكثر وعياً بضرورة تحقيق إنجازات خاصة في حياتهن الشخصية قبل الدخول في دوامة الزواج والعيال"..
"لست عانساً" .. هكذا تصر ناريمان سمير حاصلة على درجة الماجيستير بكلية الإعلام أنها لا تلقي بالاً لنظرات أهلها التي تحولت من قلق إلى حسرة وذلك لبلوغها التاسعة والعشرين دون زواج حيث تقول: "إن العانس هي من تجلس في البيت، ويكون هدفها الأول والأخير البحث عن عريس، وفيما يتعلق بي فأنا مازلت في الثامنةوالعشرين من العمر ولا أهتم كثيراً للسؤال الذي يحاصرني ليلاً ونهاراً: لماذا لم تتزوجي حتى الآن؟" لذا فهي لا تشعر بأدنى حرج كونها لم تتزوج بعد حيث تقول: "ما ذنبي إذا لم يتقدم لي شاب مناسب، فأنا لست رافضة الزواج ولكن مازلت أبحث عمن لأتوافق معه عاطفياًواجتماعياً وحتي يحين ذلك أركز كل اهتماماتي على تحصيل درجة الدكتوراة التي بدأت الإعداد لها منذ عامين"..
وتفضل سارة حسين أن تظل في مرحلة التحضير لنيل الماجستير والدكتوراة دون زواج على أن تتورط في زيجة لا تلبي طموحاتها في زوج مناسب يوفر لها حياة كريمة،ورغم صمودها على موقفها ودفاعها عن رأيها إلا أن سارة تعترف بأن إلحاح والدتها المستمر عليها في الزواج بأحد الذين يتقدمون لخطبيتها من الأسباب التي يمكن أن تضعفهاوتجعلها تتنازل قليلاً عن مواصفات فارس الأحلام..
ومع أن العنوسة لم تطرق باب يسرا أحمد ذات الأربعة والعشرين ربيعاً إلا أنها تساند معظم الآراء السابقة موضحة أن الفتاة اليوم مطالبة بالحصول على قسط وافر من التعليم كي تتسع مداركها وتصنع لنفسها شخصية قوية ومستقلة وواثقة بنفسها، ومن ثم تستطيع أن تختار من تراه مناسباً لها فكرياً واجتماعياً"..
وفي هذا الصدد تضيف: "للأسف هذه النظرة الظالمة والمجحفة تظهر الفتاة التي ترفض الزواج من أجل العلم بمظهر المغرورة مما يعرضها لهجوم قاس من قبل الناس الذين يفجرون في وجهها لقب "عانس"..
وتؤكد سارة طه دراسات عليا _ كلية الآثار أخيراً أنها تحلم شأنها شأن أي فتاة بالزواج والإستقرار مع رجل تختاره "لكن الزواج في الوقت الراهن لا يشكل هاجساً ملحاً بالنسبة لي، أعلم أنني يوماً ما سأفعلها لكن الوقت والرجل المناسبين في علم الغيب وإن كان ولابد فليكن التحصيل العلمي هو الشغل الشاغل الآن"..
وفي تعقيب موجز على الظاهرة يشرح الدكتور سامي الشريف أستاذ الإعلام _ جامعة القاهرة الأسباب والدوافع قائلاً: عندما تبدأ الكليات في فتح باب القبول للإلتحاق بالدراسات العليا تكون أعداد المتقدمين بالمئات ولكن في أثناء المقابلات الشخصية التي يجريها الأساتذة مع الطلبة والطالبات نجد أن نسبة كبيرة منهم لا تكون لديهم فكرة كافية عن طبيعة الدراسات العليا، والأدهى من ذلك أن غالبيتهم لا يوجد لديهم أي هدف من وراء تسجيل أسمائهم للإنضمام إلى مقاعد دراسات ما بعد البكالوريوس أو الليسانس وهو ما يظهر جلياً بعد بدء العام الدراسي حيث يبدأ الكثير منهم بالغياب عن المحاضرات وعدم الإهتمام بالحضور والمتابعة وكذلك إهمال الأبحاث والتطبيقات العملية وبالتالي لا ينجح منهم سوى عدد قليل جداً وهو ما يتضح معه أن معظم هؤلاء لا يفكرون في الدراسات العليا في حد ذاتها بل هي مجرد وسيلة لشغل أوقات الفراغ عقب التخرج ومن ثم يصبح كل شيء في خبر كان عند العمل أو الزواج..!!
وعلى نفس النهج يعلق الدكتور محمد المغربي وكيل كلية الآداب لشئون الدراسات العليا قائلاً: تشكل الطالبات اللاتي يتقدمن للإلتحاق بمقاعد السنوات التمهيدية للماجستير النسبة الأعلى مقارنة بالشباب الذين يدخرون مجهوداتهم في سبيل البحث عن فرصة عمل مناسبة، فعلى سبيل المثال وصل عدد الفتيات المدونات في كشوف السنة التمهيدية لبعض أقسام الكلية العام الماضي ما بين 45 إلى 50 طالبة من اجمالي 70 طالبة في أغلب الأحوال، لم ينجح منهن سوى نسبة 9 إلى 15 طالبة فقط، والغريب أن الذين تقدموا لتسجيل رسالة الماجستير لم يتعدوا 3 طالبات فقط في معظم الأقسام..
ويواصل المغربي: المؤسف حقاً في هذه الظاهرة أن نسبة ضئيلة جداً من الطلبة هم الذين يجتازون اختبارات نهاية العام لأن كثيراً من الطلبة لم يكن لديهم اقتناع أصلاً بالهدف من وراء استكمال دراساتهم ولجأوا إليها من قبيل الوجاهة الإجتماعية أو الإستفادة من الوقت الناجم عن قلة فرص العمل أو ارتفاع سن الزواج بالنسبة للفتيات موضحاً أن أحد أهم أسباب الإقبال على التقديم للدراسات العليا هو انخفاض التكاليف المادية لها رغم أنها تكلف الدولة أموالاً طائلة وهو ما ينتج عنه الزحام والتكدس الشديد في الجامعات وعدم تكافؤ الفرص بين الطلبة المتفوقين بالفعل أثناء دراستهم الجامعية وغيرهم من الزملاء الذين يحصلون على تقديرات عادية الذين يقومون بالتحضير للماجيستير معهم لكن عموماً العبرة في النتيجة النهائية ولا يحصل على درجة الماجستير أو الدكتوراة إلا من سعى غليها عن اقتناع تام وليس هرباً من المشكلات والأزمات التي تواجهه بعد التخرج..
ومن وجهة نظر إجتماعية يحاول د. سعيد الفقي أستاذ علم الإجتماع الوقوف على التحليل النفسي لشيوع ظاهرة انتساب الفتيات إلى التعليم ما فوق الجامعي بقوله: الزواج حلم لكل بنت تسعى إلى إشباع حاجاتها الغريزية والأمومية لكن نستطيع أن نفسر إعلان بعض اللاتي تأخرن في الزواج بأنهن مشغولات بالمستقبل العلمي بأنه نوع من النظم الدفاعية النفسية التي يستخدمها الإنسان بشكل لا شعوري لتجنب الإحساس بالألم نتيجة فقد شيء ما أو كنوع من التعويض عن عدم حصولهن على فرصة زواج مناسبة في نظرهن أو مرضية لطموحاتهن.