لقاء عاصف مع حبيب

إن من الكتب الجديرة بالقراءة في هذه الأيام لكل العاملين على الساحة الدعوية -خاصة جماعة الإخوان- كتاب: "الإخوان المسلمون أحداث صنعها التاريخ" الجزء الثالث: فترة 52-54، للأستاذ: محمود عبد الحليم -رحمه الله-، وقد كان من الرعيل الأول للجماعة، وشارك أحداثها وأرخ لها مع تحليل رائع لها، وأتعجب وما زال تعجبي يزداد من قيادة الجماعة الآنية كيف يعيدون التاريخ مرة أخرى دون أن يستفيدوا منه؟ كيف يلدغون من جحر واحد مرتين؟ والمؤمن ليس بهذه الصفة! لماذا لم يسمعوا لنصح الناصحين قبل حدوث هذه النتائج الكارثية على الدعوة والأفراد؟ هذه النصائح التي نصح بها المخلصون من الدعوة السلفية وحزب النور وغيرهم! والتي هي هي التي نصح بها الأستاذ محمود عبد الحليم للأستاذ عبد القادر عودة والهيئة التأسيسية لما اختفى المرشد لإشاعة الاغتيال! ومع ذلك فهناك بقية من نصح يمكن أن يستدركها العقلاء من الجماعة للإنقاذ، فهل يفعلون؟

والآن أترك المجال للأستاذ محمود يحكي لنا ما حدث بعد أن حدثت بداية التنكيل بالجماعة وتشريد الموظفين بنقلهم بعيدًا عن مدنهم، وكان منهم الأستاذ محمود حيث نقل إلى قنا، ومن هناك استطاع أن يحصل على إجازة مرضية ليكون بجوار المرشد في القاهرة:

وصلت إلى القاهرة، واتجهت فورًا إلى دار المركز العام، فراعني ما رأيت؛ رأيت دارًا غابت عنها أهلها، ولم يبق بها إلا عدد ضئيل، وهذا العدد الضئيل هم الإخوة الذين أطلق عليهم "مجموعة الروضة"، ورأيت بجانبهم الدكتور محمد خميس حميدة -رحمه الله-، وما كان بي حاجة للسؤال عن الغائبين؛ فأنا أعرف أين غابوا ولم غابوا، فبعضهم غيبته المعتقلات، والبعض الآخر عرفوا أنهم متعقبون فحاولوا الاستخفاء حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولاً، ولكن الذي سألت عنه هو الأستاذ المرشد العام؛ لأنني كنت حريصًا على الالتقاء به لأتبادل معه الرأي، وأستنير بتوجيهه، وأبثه ما عندي.

سألت عنه الدكتور خميس فقال لي: إنه مختف، فسألته عن سبب اختفائه فقال لي: إنه مهدد بالاغتيال، فسألته عما إذا كانت الاتصالات مستمرة بيننا وبين جمال فقال لي: إنها انقطعت تمامًا، ووجدت الرجل في حال من الأسى والحزن كما رأيت ذلك مرتسمًا على وجوه العدد القليل الموجود بالمركز العام.

وقد جلست إلى الإخوة "مجموعة الروضة" وحدثتهم عما كان من أمري حتى استطعت أن أحضر إلى القاهرة؛ لأنني أحسست أن الحالة في تفاقم مستمر -وقد وجدتها كذلك- فالحالة تتلخص في أن الإخوان في القاهرة والمركز العام يعيشون في ظل سلطة إرهاب لا حدود لها، وقد وجدت أن الإخوان بالمركز العام يغذون إخوان الأقاليم بسيل من المنشورات، منها خطابات موجهة إليهم من المرشد من مخبئه، ولاحظت أن هذه المنشورات والخطابات مما يرفع من حرارة الالتهاب في أعصاب الإخوان ضد الحكومة حتى إن بعض هذه المنشورات رمت رجال الثورة بما تستباح به الدماء، كما وجدت حملة الصحف المصرية قد وصلت في إثارتها للإخوان بنشر الأكاذيب واختلاق التهم وقلب الحقائق واستعداء الشعب عليهم إلى الحد الذي لا يستطيع الإخوان أن يملكوا أعصابهم معه، وهنا وجدتني مطالبًا -أمام ضميري ومن أجل دعوتي وإخواني- بالقيام بعمل ما يضع حدًا لهذا التفاقم المستمر والغليان الذي لن يملك أحد أن يسيطر عليه بعد ذلك، كان لابد لي من الإقدام على ما كنت أنفر منه من قبل، وهو أن أقوم بلقاء مع الطرف الآخر لإجراء تفاهم بعد أن انقطعت الاتصالات، وأنا أعلم أنني شخص غير مقبول عند رجال الثورة، بل إنهم يعتبرونني من ألد أعدائهم، ولكن لابد مما ليس منه بد.

لقد كنت أرى صدامًا عنيفًا مدمرًا يوشك أن تسيل الدماء فيه أنهارًا، تتجمع سحبه في سماء مصر.. ولن تكون أرواح الألوف وحدها صاحبة هذا الصدام؛ وإنما سيأتي هذا الصدام على الأخضر واليابس ويحيل هذا البلد الطيب إلى حطام!!..

ولكنني فكرت: كيف يتم لي ما أريد؟! وأطلت التفكير حتى كاد ينتهي بي إلى ما يشبه اليأس، ولكن بريقًا من الأمل لاح في الأفق حين تذكرت صديقًا من أعضاء الهيئة التأسيسية هو الأخ الحاج محمد جوده، وهو الأخ الذي سبق لي ذكره في الصفحات القليلة الماضية، وقلت: إنه كان زميلاً لي في المدرسة الابتدائية في رشيد، وإنه صديق شخصي حميم لجمال عبد الناصر وزملائه الضباط من قبل قيام الثورة؛ لأنهم كانوا عملاءه في محله لتجارة الأرز الرشيدي في شارع الموسكي، وقد ظلت صلتهم به بعد قيام الثورة على ما كانت عليه قبلها، وقد رأيت فيه خير سفير بيني وبينهم.

وكانت حاشية جمال عبد الناصر التي لا تكاد تفارقه حيث كان حتى وهو في بيته مكونة من ثلاثة ضباط هم: الصاغ إبراهيم الطحاوي، والصاغ أحمد طعيمة، واليوزباشي عبد الرحمن نصير، وهذا الأخير كانت مهمته مهمة حراسة، أما الآخران فكانت مهمتهما مهمة سياسية.

وتحدثت مع الأخ محمد جودة في العلاقات بين الثورة والإخوان وما آلت إليه من تدهور، وأبديت رأيي في أننا يجب أن نعمل على تلافي هذا الأمر، فقال لي: هذا واجب، ولكن من الذي يقوم بهذا من الإخوان بعد أن امتنع المكلفون منهم بهذا الاتصال عن الاتصال؟ فقلت له: إن جمال عبد الناصر هو الذي رفض مقابلتهم، فقال: نعم لقد رفض مقابلتهم لأنه وجد أعضاء اللجنة المختصة بالاتصال سيئي النية ولا يريدون الإصلاح، بل هدفهم هو زيادة العلاقات سوءًا؛ لأنهم لا ينقلون ما يتفق عليه بأمانة، يقصد إيغار صدور الإخوان. قلت له: إن الأستاذ المرشد -توخيًا لتحسين العلاقات- كون هذه اللجنة وكلف الدكتور خميس نائب المرشد بالقيام بمهمتها، فلما قام الرجل بالمهمة مرة ومرتين رفض جمال مقابلته بعد ذلك فما السبب؟ قال: السبب أن جمال كان يعتقد أن الدكتور خميس وهو نائب المرشد العام يستطيع أن ينفذ ما يتفق عليه في هذه الاتصالات، ولكنه تبين أنه مجرد لقب بدليل أنه لم يستطع أن ينفذ شيئًا مما اتفق عليه، فلقد تعهد في أحد الاتصالات لجمال بأن يوقف إصدار النشرة السرية فترة من الزمن اتفق عليها، ولكن النشرة صدرت في مواعيدها.

ومن حق التاريخ أن أقف هنا لأقرر صحة هذه الواقعة، فلقد شكا إليّ الأخ الدكتور خميس من هذا التصرف مر الشكوى، وقد تحدثت في ذلك مع المسئولين من أعضاء النظام الخاص معاتبًا، وذكرتهم بقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم"، وقلت لهم: "إذا كنا مطالبين بأن ننفذ عهدًا قطعه لأعدائنا أدنانا منصبًا ومكانة في مجتمعنا؛ فكيف إذا كان الذي أعطى العهد من أعلانا منصبًا ومكانة"، كما ذكرتهم بموقف أبي عبيد أحد قواد جيش المسلمين في فتح فارس حين كان جيش المسلمين محاصرًا أحد المواقع، وكان "جابان" قائد جيش الفرس فاجرًا عنيدًا تمنى المسلمون أن يظفروا به ليقتلوه، وكان أن أسره أحد صغار الجند ثم أمنه، فرآه المسلمون فأخذوه إلى قائدهم أبي عبيد ليقتله، فلما علم أن أحد صغار جنده مطر بن فضة أمنه أبى أن يقتله وقال: "لا أغدر"، وتركه، وأنا حين أذكر هذا الذي أذكره لا أدعي أن تنفيذنا لما تعهد به الأخ الدكتور خميس كان سيغير الوضع -فهذا شيء كان في قبضة القدر-؛ ولكنني كنت حريصًا على أن لا نتصرف تصرفًا يتعارض مع مبادئ ديننا ودعوتنا، ونضع في يد خصمنا حجة يشهرها في وجوهنا، ويستطيع أن يذيع بها على أنها دليل على تخبطنا واضطراب أمرنا.

فقلت للأخ محمد جودة: "هل هناك مانع من أن أقوم أنا بمهمة الاتصال؟".

فإذا به يتلقي هذا السؤال بدهشة كأنها مفاجأة، وسكت لحظة، ثم اتجه إليّ كأنه كذب سمعه قائلاً: "أنت تقوم بهذه المهمة؟!"، قلت: "نعم أنا"، قال: "هذا شيء لم يكن يتوقع"، قلت: "يا أخ محمد، ليس في هذا غرابة، إننا جميعًا جنود في هذه الدعوة، نستجيب لندائها في أي لحظة، ومن حقها عليّ في هذا الموقف -وقد انقطعت الاتصالات بيننا وبين رجال الثورة وتأزمت الأمور- أن نحاول معالجة الأمور، ونضع حدًا لهذا التفاقم الذي لا يعلم إلا الله مدى ما يخلفه من آثار على البلاد"، قال الأخ محمد: "إنني أرحب بهذه الخطوة، ولكن ما الذي تقترح عليّ أن أفعله؟"، قلت: "تهيئ لي في محلك اجتماعًا لي مع الطحاوي وطعيمة".

جاءني الأخ محمد جودة في اليوم التالي وأخبرني بأن الطحاوي وطعيمة تلقيا نبأ رغبتك في الاجتماع بهما بدهشة واستغراب، وقالا: "إننا نعتبر فلانًا هذا أشد من الهضيبي نفسه"، ولكنهما رحبا بالاجتماع، وسيكونان عندي مساء اليوم في الساعة السادسة إن شاء الله في انتظارك.

رتبت في خاطري الطريقة التي أدير بها المناقشة بيني وبينهما، وكانت تدور على محورين؛ أولهما: أن أشعرهما أنني أتكلم من موقع قوة، والآخر أننا نحن الإخوان مع ما نملك من قوة نؤثر السلام على أن يقوم على دعائم أخوية متكافئة.

الفصل الثاني: المفاجأة المذهلة

ذهبت في الموعد المحدد إلي محل الأخ محمد جودة والتقيت بالرجلين وكان أول لقاء لي معهما، فتلقياني بترحيب وود، وما إن تبادلنا عبارات التحية والترحيب حتى ألقيا في وجهي بقنبلة مدوية أذهلتني وأذهبت صوابي ونسفت كل ما كنت أعددته في خاطري وغشت على عيني فظللت برهة لا أكاد أرى شيئًا أمامي لهول الصدمة وفظاعة المفاجأة.. لقد تبددت أفكاري، وانعقد لساني، وأرتج عليّ.. ولولا بقية من إيمان لجأت بها إلى ربي لما استطعت أو أواصل جلستي معهما، ولكنني استلهمت ربي الذي عودني أن يكون بجانبي في لحظات تدلهم فيها الأمور وتنقطع أسباب الرجاء، وكانت المفاجأة هي أنهما في أثناء ما أزجيا لي من عبارات الترحيب قال أحدهما -ولا أذكر من منهما- موجهًا السؤال إليّ: "ولكن يا فلان لماذا لم تقبل المنصب (الفلاني) الذي عرضه عليك الأستاذ الهضيبي يوم كذا عندما اجتمعتما على انفراد بمكتبه بالمركز العام؟"، ولا أعتقد أن القارئ يجد في هذا السؤال معنى من معاني المفاجأة التي تزلزل أركان من يوجه إليه، ولهذا يكون لزامًا عليّ أن ألقي شعاعًا من ضوء ما يكتنف هذا السؤال من ظروف توضح مدى خطورته:

أولاً: لعل القارئ يتذكر الفتنة التي كادت تطيح بالدعوة من أساسها والتي ابتدأت بتمرد قيادة النظام الخاص وعلى رأسها عبد الرحمن السندي، وانتهت بفصله وثلاثة معه وبفصل ثلاثة من أعضاء الهيئة التأسيسية.

ثانيًا: كان الاجتماع الذي ضمني والأستاذ المرشد على حدتنا لا ثالث معنا إلا الله في حجرة مكتبه بالمركز العام، وأبواب المكتب كانت مغلقة، كان هذا الاجتماع عقب انتهائنا من معاناة هذه الفتنة، وخروج الدعوة منها سالمة في أتم عافية.

ثالثًا: طلب إليّ الأستاذ المرشد في هذه الجلسة الثنائية طلبًَا بموضوع يعد في دعوة الإخوان المسلمين هو أدق أسرارها، ذلك أنه طلب إليّ أن أتولى قيادة النظام الخاص، فلم أتوان عن الاعتذار عن إجابة هذا الطلب، فقال لي: "أنت موضع ثقتي، ولك صلة قديمة بهذا النظام، والعاملون فيه يكنون لك الحب والثقة والاحترام، وأراك خير من يصلح لهذا المنصب"، فقلت له: "إنني أعتز بثقتك في، ولعلك تحس بأنني أبادلك هذه الثقة، وإنني على استعداد أن أكون حيث تريد في هذه الدعوة، ولكن الظروف التي وضعت فيها أصبحت تحول بيني وبين هذا المنصب، لقد كنت طيلة حياتي أتحاشى الظهور والشهرة، ولقد اعتذرت لهذا السبب عن عضوية مكتب الإرشاد حين عرضتها عليّ من قبل، ولكن الظروف والاستجابة لنداء الدعوة في أحرج مواقفها أجبرتني أن أتولي عملاً لم يكن لي خيار في تفاديه كان سببًا في توجيه أنظار الجميع إليّ في أنحاء البلاد أعداءً وأحباء، وذلك بنشر اسمي تحت قرارات خطيرة في جميع الصحف، ورجل أصبح اسمه على كل لسان لا يجوز أن يتولى عملاً طبيعته السرية".

رابعًا: اقتنع الأستاذ المرشد برأيي، ثم استشارني حول أسماء أخري، وانتهى الاجتماع الثنائي، وكان الأستاذ المرشد طيلة هذه الجلسة يجلس بجانبي على أريكة بجوار مكتبه.

خامسًا: الأستاذ حسن الهضيبي من الشخصيات ذات الخبرة بالأمور السرية، وذات المقدرة على كتمان الأسرار، ولا يمكن أن يكون قد باح بما دار بيني وبينه من حديث لأي إنسان.

إذن فكيف وصل نبأ هذا السر الدفين -الذي لا يعرفه أقرب الناس إليّ ولا أقرب الناس إلى المرشد العام- إلى هذين الضابطين، حتى وجها إليّ هذا السؤال المحدد بالتاريخ والمكان على سبيل التحدي، بل على سبيل التهكم؟ إنهما أرادا أن يفجعاني في أعز ما نعتز به، وهو مقدرتنا على حفظ أسرارنا، إنها إشارة واحدة وكلمات وجيزة، أرادا أن يقولا لي: "ابدأ كلامك معنا كما تشاء بعد أن تعلم أن كل أسراركم عندنا"، لقد ضاقت الدنيا في وجهي، واسودت أمام عيني، وكاد يغشي عليّ من هول المفاجأة وهما يطلقان نحوي هذه القنبلة مبتسمين زيادة في التهكم والتحدي والسخرية، موقف عدو ملك من أمرك كل شيء، وأصبحت بكل إمكاناتك في قبضة يده أو بين فكيه، وصدق القائل:

احذر عـدوك مرة .. واحذر صديقك ألف مرة
فلربما انقلب الصديق .. فكـان أعلم بالمضرة

إن وجود جمال عبد الناصر في تشكيلات الإخوان وإلمامه بأدق أسرارها جعله على علم بأمضى سلاح فيها، وأعظم رصيد من القوة بها، فوجه كل إمكانات ما يملك من مقدرات الدولة للإحاطة بهذا الرصيد، ووضع أهم ما فيه تحت رقابة فعالة تجعله على علم بأدق تفاصيله وأعمق أسراره، ولكن كيف استطاع أن يصل إلى أسرارنا؟ وأهم من هذا السؤال سؤال آخر وهو: كيف وصل إلى هذا السر بالذات الذي كان بيني وبين الأستاذ المرشد في حجرة مغلقة ليس معنا ثالث، ولشدة حرص الأستاذ المرشد على سرية الحديث ترك مكتبه وجلس بجانبي على الأريكة المجاورة للمكتب، ومن ناحيتي فأنا أثق في نفسي -والحمد لله- إلى حد أن أسرارًا أقل من هذا السر أهمية يبلغ بي الحرص على كتمانها درجة تجعلني أنساها، ولا تقل ثقتي في هذه الناحية في الأستاذ المرشد عن ثقتي فيها في نفسي، إذن فكيف وصلوا إلي هذا السر؟ لم أجد لهذا السؤال إجابة إلا إجابة واحدة هي أن يكون ذلك عن طريق جهاز من أجهزة التسمع!

إن وقوف أصحاب الدعوات أمام المفاجآت التي لم تكن في حسبانهم مشدوهين جامدين هو نوع من الغفلة والبله، لابد لهم من أن يتصرفوا ويغيروا من خططهم تواؤمًا مع هذه المفاجآت، ولا أقصد من هذا أن يتناول التغيير مبادءهم ولا أهدافهم؛ وإنما أقصد أن يكون التغيير في وسائلهم وأسلوبهم، فإذا وضعت خطتك للقاء عدوك في ساحة القتال ومعلوماتك عنه أنه غير كامل العدة والعتاد، ثم تبين لك في آخر لحظة قبل اللقاء خطأ معلوماتك عنه وأنه كامل العدة والعتاد؛ فمن الخطأ الفادح أن تتمسك بخطئك دون تعديل، وهذا هو ما ألهمته بعد أن أفقت من صدمة المفاجأة، فلقد كنت معدًا نفسي على أساس أني سأتحدث من موقع القوة إلى قوم هم في رهبة مني لأنهم لا يعرفون ما ورائي، ولكنني فوجئت بأن أدق أسراري عندهم، فعليّ إذن أن أغير أسلوب حديثي معهم.

وقد فعلت إذ قلت لهما: "دعونا نتكلم فيما جئنا من أجله، إني رأيت الخلاف بيننا وبينكم قد تفاقم أمره مع أننا جميعًا إخوة، وقد علمت أنكم تتهمون لجنة الاتصال التي بيننا وبينكم بأنها مغرضة وليست أمينة على نقل ما يقال في الاتصالات، ولما كنت حريصًا على أن لا يأخذ الخلاف هذا الوضع الخطير؛ فقد رأيت أن أقوم أنا بهذا الدور؛ آملاً أن أوفق فيما لم يوفق فيه غيري، وأنا ليس لي من هدف شخصي كما تعلمون، فما رأيكم؟"، قال الرجلان: "إننا نرحب بكل ما يقرب بين وجهات النظر"، قلت: "أما وقد وافقتما على هذا المبدأ، وعلي أن أقوم بهذه الوساطة؛ فالخطوة التالية هي أن أعرض عليكم مذكرة أعددتها ولكني أثرت قبل أن أعرضها عليكم أن أعرف مدى استعدادكم للتفاهم، فإلى موعد آخر قريب إن شاء الله في بيت الأخ الحاج محمد جودة".

قلت: ثم قام بإعداد المذكرة في المركز العام، ثم يقول:
سلمت المذكرة التي أعددتها للدكتور خميس باعتباره نائب المرشد، وطلبت إليه أن يقرأها ويبدي لي رأيه فيها، كما طلبت إليه أن يطلع عليها الإخوة "الروضيون" باعتبارهم المسئولين الفعليين عن الدعوة في غياب المرشد، وقد فعل وقال لي إنه يؤيد كل ما جاء فيها، فطلبت إليه عرضها على أعضاء الهيئة التأسيسية في جلسة الهيئة المقرر عقدها في 24 سبتمبر 1954 والتي ستعقد بعد أيام قلائل.

• لقاء عاصف مع حبيب:
في صبيحة اليوم التالي حضر إلى المركز العام -حيث كنت أقضي أكثر وقتي فيه- الأخ الأستاذ عبد القادر عودة، وكانت تربطني به غير الأخوة العامة صداقة حب متبادل، وبعد أن صافحني طلب إليّ أن نجلس معًا جلسة على انفراد، فجلسنا في إحدى حجر المركز العام التي كانت كلها خالية وأغلقنا علينا الباب، ثم سألني عن الدافع الذي دفعني إلى كتابة هذه المذكرة، فقلت له: إن الذي دفعني إلى ذلك هو الآتي:

أولاً: انتقالنا من مركز القوة إلى مركز الضعف بتضييعنا الفرصة بعد خروجنا من المعتقل في مارس 1954، حيث أضعنا الوقت في تبادل التهاني بخروجنا منتصرين حين استطاع جمال عبد الناصر أن ينتهز هذه الفرصة وبعد مظاهرات الحكومة -سواء بالرشوة أو غيرها- مما أحبط كل الجهود وقضى علي كل الآمال، فقد أمكنه بذلك تبادل المواقف، فاحتل موقفنا الذي هو مركز القوة، ونقلنا إلى موقعه الذي كان مركز الضعف، وبذلك انتقلنا منذ ذلك اليوم من موقف المهاجم إلى موقف المدافع، وهذا التغيير في الأسلوب لا يمس أفكارنا ولا أهدافنا؛ ولكنه يتيح لهذه الأهداف وهذه الأفكار الفرصة.

ثانيًا: أن استمرار شحن الإخوان عن طريق منشورات المرشد الملتهبة -وهو بعيد عن مجريات الأحداث- وعن طريق حملات الاستفزاز بها جميع الصحف كل يوم لابد أن ينتهي بكارثة، في الوقت الذي أرى فيه المركز العام خاليًا من الإخوان، فالمرشد غائب خشية أن يغتال، وصفوة الإخوان بين معتقل وهارب من السلطة، هذا وضع لا ينبغي السكوت عليه ولا تركه، يزداد كل يوم تفاقمًا دون وضع حد له، يتيح لهذه الجموع الضخمة اللاهثة من الإخوان أن تتنفس بحرية، وتدرس الموقف دراسة متأنية مستبصرة قبل أن تقدم على معركة لا يقدِّر أحد مدى ما تنتهي إليه ولا ما تتمخض عنه، لا سيما إخوان الأقاليم الذين لا يعرفون الكثير مما يعرفه إخوان القاهرة من ظروف وتطورات.

ثالثًا: أن التقائي بالضابطين الطحاوي وطعيمة كشف لي عن حقيقة ما كنت أتصورها؛ هي أن أدق أسرارنا عندهم بتفاصيلها، فلقد واجهاني بأسرار خطيرة تتصل بي شخصيًا لا يعرفها إلا المرشد، وأنهم متمكنون منا تمكنًا يلزمنا أن نعيد النظر في جميع خططنا، ولن نستطيع ذلك إلا إذا عملنا علي إيجاد فرصة نتخلص في خلالها من حالة التشنج والثورة والعصبية التي صرنا فريسة لها، وهذا هو ما أسعى إليه.

فلما أنهيت كلامي اتجه إليّ الأخ الأستاذ عبد القادر وقال لي: "أطمئنك بأننا لسنا في مركز ضعف؛ بل إننا في مركز قوة وهم في مركز ضعف، وستظهر الأيام ذلك إن شاء الله، وسيعلمون أن الإخوان قوة لا تقاوم، وعلي ذلك فلا داعي لهذه المذكرة التي تطلب عرضها على الهيئة التأسيسية ولا لهذه الجهود التي تبذلها"، فقلت له: "يا أخي عبد القادر، أنت صادق فيما تطمئنني به مما يعده الإخوان من قوة، وأنا لا أجهل ما تشير إليه من هذه القوة، ولكن الجديد في الأمر أنني اكتشفت أن القوم -بكل الوسائل التي أتيحت لهم من خزائن الدولة، وولاء بعض الإخوان لهم، ووسائل التسمع الحديثة- استطاعوا أن يعرفوا أسرارنا مما يتصل بهذه القوة، فلا ينبغي لنا بعد ذلك أن نتعامى عن هذه الحقيقة المرة، ونكون كالنعامة التي تظن حين تدفن رأسها في الرمال فلا تري الصائد أن الصائد لا يراها، أنا لا أطالب بأكثر من أن نعطي لأنفسنا فرصة للتنفس فيها الصعداء، ونعيد فيها ترتيب بيتنا".

لما يئس الأخ عبد القادر -رحمه الله- من استجابتي لأسلوب المناقشة والإقناع؛ لجأ إلى أسلوب آخر كريم، فهو يعرف مكانته في نفسي ومدى ما يربطني به من صداقة وحب، فقال لي: "من أجل خاطري وبحق ما بيني وبينك من أخوة وحب وصداقة أستحلفك بالله إلا عدلت عن هذه المذكرة وعن جهود الوساطة التي تقوم بها؛ فإن هذه المذكرة ستعوق خطة الإخوان، وستكون عقبة في طريقها"، ثم قال كلمة أبكتني هي قوله: "إنني على استعداد أن أقبل قدمك"، ولقد أدت هذه الكلمات الأخيرة إلى انفجاري قائلاً:

"يا أخي عبد القادر، أنت أعز عليّ من هذا الذي تقول، وآثر عندي من أن ألجئك إلى هذا الأسلوب، إن الموضوع الذي نعالجه ليس موضوعًا شخصيًا حتى ترجوني فيه، إنه موضوع سيتعلق بألوف الإخوان في الأقاليم، إنه يتعلق بألوف الأسر والنساء والأطفال، إنه يتعلق بدماء هؤلاء الألوف التي ستهدر دون ترو ولا تبصر ودون إحكام خطط، إن دماء هؤلاء أمانة في أعناقنا نحن الذين اختارونا قادة لهم يتلقون منا دون مناقشة ولا مراجعة.. فمن حقهم علينا أن نطلعهم على ما عندنا، وأن نظهرهم على ما جد مما كشفته لنا الظروف، أو على الأقل أن لا نخاطر بدمائهم ما دام قد جد من الأمور ما يلقي على خططنا ولو بظلال باهتة من الشك؛ لأن هذه الدماء أعز من أن تهدر دون أن تكون على بينة من الأمر لا يخالطها شائبة من شك، يا أخي عبد القادر، إنني كنت حريصًا على لقاء الأستاذ المرشد في مخبئه لأطلعه على ما عندي، وأنا موقن أن الرجل -بثقته فيّ وبما أعرضه عليه من ظروف كشفتها تتصل بأسرار بيني وبينه- سيغير من خطته كما عودني؛ لأنه ليس بالرجل المستبد، ولكن الإخوة الذين يستطيعون ذلك حالوا بيني وبين لقائه، فلا أقل من أن أعرض رأيي على الهيئة التأسيسية في أقرب اجتماع لها؛ حتى أكون قد رضيت ضميري، وأعذرت إلى الله، وبرئت من أبرياء ستهدر دماؤهم.

وأقسم لك الله -يا أخي عبد القادر- إنني لن أتراجع عن تقديم هذه المذكرة، ولا عن مواصلة وساطتي، ولو كان في ذلك سفك دمي؛ لأنني إذا لم أفعل فسأظل طول حياتي مؤرق النفس تحت تأنيب ضميري".

وهنا لم يكن بد من إنهاء الجلسة، وخرج كل منا وهو في حالة من الثورة النفسية تكاد تعصف قلبه، وجلست بعد ذلك إلى نفسي ساعة حتى هدأت العاصفة النفسية التي استبدت بي، وأخذت في مراجعة ما كان من أمر هذه الجلسة العاصفة، وكيف تمت، ولم تمت، ومن الذي اختار الأستاذ عبد القادر ورشحه للقيام بهذا الدور معي، ولم اختير هو بالذات دون غيره، وقد وضح أمامي أن الإخوة "الروضيين" هم الذين اختاروا الأخ الأستاذ عبد القادر للقيام بهذا الدور، وقد اختاروه دون غيره لما يعرفون من حسن صلتي به أولاً، ولأنه كذلك بعد تحول اتجاهه -إثر أحداث شهر مارس 1954- كان متوائمًا في أفكاره -رحمه الله- مع أفكارهم، وينبغي هنا أن أعيد ما سبق لي الإشارة إليه من أن الأستاذ عبد القادر -رحمه الله- كان على علو كعبه في العلم وسمو نفسه في الخلق وعمق عقيدته في الإيمان كان إذا أحب أفرط في الحب، وإذا أبغض أفرط في البغض، وليس من السهل عليه إلزام نفسه بالموقف الوسط الذي حث عليه الحديث النبوي: "أحب حبيبك هونًا ما؛ عسي أن يكون بغيضك يومًا ما، وأبغض بغيضك هونًا ما؛ عسي أن يكون حبيبك يومًا ما".

ويجب عليّ أن أقرر هنا قبل أنا أغادر هذه النقطة أنني مع اختلافي في وجهة النظر في تلك الآونة في وسيلة معالجة الموقف الذي كانت تعانيه الدعوة بعد توالي الأحداث المناوئة لها والمواتية لأعدائها - مع اختلافي مع الإخوة "الروضيين" فإنني لم أشك لحظة في إخلاصهم بل في تفانيهم في عملهم للدعوة، كما لم يتطرق إلى نفسي أثارة من شك في ذلك حتى بعد أن نصبت المشانق، وسفكت الدماء، ومثل بالجثث، وقد كانوا هم من أوائل من ذاق هذه المرارات وتجرع هذه الغصص وعاني أهوال التنكيل، أما ظنهم بي واعتقادهم فيّ فمما لا أدريه ومما لم أكن أحسب له حسابًا؛ فلقد عاصرت هذه الدعوة منذ لم تكن شيئًا مذكورًا، وعملت لها في ذلك العهد كما عملت لها بعد أن صارت أعلى الهيئات صوتًا وأغلظها ساقاً، وبعد أن صارت مجالاً لذوي الأطماع، ووسيلة للبروز والظهور، وما راعيت في عملي لها في كلتا الحالين غير وجه الله، لا أبغي سواه، ولا أحفل بغيره، ممتثلاً أمر الله تعالى: (قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون).

ولو كان التماس رضا المخلوقين يشغل خاطري أو هو شيئًا من أهدافي؛ لكان سكوتي على الأقل ومسايرتي لآراء الإخوة "الروضيين" محققًا لذلك كل التحقيق؛ فلقد كنت أعلم أن رأيهم هو رأي الإخوان، لا سيما إخوان الأقاليم وهم الأكثرية، ولكنني والحمد لله لم يكن يعنيني رضاهم عني، ولا غضبهم مني هم أو سواهم، وإنما كان الذي يعنيني هو أن أعمل على حقن دمائهم، وأن أتفادى جرهم إلى حرب غير متكافئة تبين لي أن العدو كاشف أغلظ عوراتهم وهم لا يشعرون.

قلت: استطاع الأستاذ محمود أن يذهب بحشد إخواني من المؤسسين للقاء عبد الناصر، وهناك تهدد جمال وتوعد، فاتفقوا على هدنة، ورجع الوفد لتنفيذ الشروط، ولكنهم فوجئوا بحشد معنوي غير عادي لأعضاء الهيئة التأسيسية الذين اجتمعوا من الأقاليم، تبين فيما بعد أنه قام به الأستاذ عبد القادر ومن معه من إخوة الروضة، وحدثت أمور مؤسفة أثناء الاجتماع انتهت برفض مذكرة الأستاذ محمود ومساعيه، وتكليف اللجنة التي كان موكولاً إليها الاتصال برئيس الحكومة!

ولما ذهبت اللجنة فيما بعد إلى عبد الناصر رفض مقابلتهم وقال لهم رسوله: "الرئيس يرفض مقابلتكم "، وبذلك قُضي على آخر أمل لمنع المصيبة المنتظرة، وقدر الله وما شاء فعل، لكن لابد من التعلم من التاريخ جيدًا! ورجع الأستاذ محمود إلى رشيد ينتظر الكارثة، وفعلاً حدث القبض على القيادات، وكان ما كان وإنا إليه راجعون!

نلحظ أن الأستاذ محمودًا بنى موقفه على الموازنة بين القوة والضعف والقدرة والعجز وتحقيق المصالح قدر الإمكان ودرء المفاسد قدر الإمكان، وهكذا ينبغي أن يكون موقف القيادة دائمًا!

الاعتبار بهذا الجزء من التاريخ متروك لكل عاقل يخاف على دعوته، والله المستعان، ونسأله –تعالى- أن يدبر لنا، وأن يهيئ لنا من أمرنا رشدًا. (3/339-405).

بقلم الشيخ / عصام حسنين