تلعب الخلفية الثقافية والتعليمة دور هام في تطوير ملكة التفكير التحليلي النقدي عند الانسان، فإذا كانت هذه الخلفية تعتمد على التلقين وإلغاء النقاش والنظر الى الامور على انها مسلمات وتحريم الخوض فيها او حتى وضع علامات استفهام حولها، فالنتيجة بالطبع سوف تكون سلبية على تطوير تلك الملكة الهامة، فمن المعروف أنه كلما تطورت هذه الملكة كلما استطعنا بناء حضارة متقدمة و قوية و منافسة لغيرها. ولا نجافي الحقيقة إذا قلنا ان الثقافة الحضارية والظروف التعليمة التي نشأنا فيها كانت مقيدة بقيود غليظة أدت الى تحجيم تطور هذه الملكة وهي ملكة التحليل والتفكير ومن ثم الإبداع والتي تكون نتيجتها التقدم على جمع الأصعدة، والقيود هذه تمثلت في أمرين واختلفت شدتها بإختلاف الزمان، الأمران هما : السياسة والدين.

فالنقاش الذي هو أساس التعلم حسب رأي كل علماء التربية يولد تساؤل، والتساؤل يولد خروج عن المألوف، والمألوف هو إفراز ونتاج طبيعي لمفاهيم تدور حول محوري السياسة والدين التي منهما نكون حضارتنا بمفهومها العام ونبني منهجنا في الحياة وصورتنا التي نظهر بها للاخرين، وبتعبير اخر نستطيع ا ن نقول أن نقاش أي أمر من أمور حياتنا لابد، بل من الطبيعي، ان يتم تحت مظلة السياسة والدين، وكلما كان المجتمع مبتدء وفي مراحل نموه الأولى، كلما كانت حدود هذين العنصرين ضيقين وأشد إحكاما، وكلما كانت هذين العنصرين ضيقين وأشد إحكاما، كلما ضعفت الفرصة في إيجاد الحوار والنقاش الذي يؤدي الى خلق فكر تحليلي متميز يساهم في نشوء أفكار مفيدة تساعد على نمو المجتمع في كل المجالات، ففي ظروف مقيدة تكون الأمور أقرب الى الجمود، وتكون العقول أقرب الى السكون، لأن كل شئ سبق أن وُضع له حكما ورأيا ولا مجال لرأي اخر أو حكم اخر غيرة ولا مجال للحوار حولة بالأساس. ومن هنا يصبح الإبداع حلماً صعب التحقيق.

فمثلا اذا السياسة لا تسمح لنا مناقشة الوضع الاقتصادي للبلد لان نقاش مثل هذا الأمر يمس المصالح العليا للدولة فاننا نوصد الباب على بيئة خصبة للنقاش وايجاد فكر مختلف يساهم في إيجاد حل للمعضلات الإقتصادية التي يعاني منها ذلك البلد، وكذلك اذا كانت السياسة لا تسمح لنا بمناقشة احتياجات الشعب الاجتماعية فاننا كذلك نحكم على مجال ضخم للنقاش بالاعدام وعدم ترك فرصة لتطوير حاجات ذلك الوطن للرقي بحالاته الإجتماعية، المشكلة هذه لا يستوعبها السياسي لأنه يؤمن ان ما هو عليه هو الأفضل له و لمجتمعة و بهذا هو لا يعلم أنه ترك فرصة قدوم فكر أفضل من فكرة في سبيل المحافظة على الجميع وليس شخصة فقط، فالسياسي في نهاية المطاف هو مواطن يحرص على بقاء وطنه ولكن الكثيرين من الساسة لا يستوعبون هذا الأمر، فيحسب كل فكرة هو محاولة لإقتلاعه من مكانة وهو ليس صحيح على كل حال اذا أراد الإصلاح لبلدة والبقاء لفترة أطول.

وكذلك الدين اذا استخدم بشكل قصري وتحت شكلية واحدة من التفسير فأننا نقضي على أي نقاش يتطرق للحياتنا، فأمور حياتنا لا تخرج عن نطاق الدين بأي حال من الأحوال، المعضلة هنا تكمن في ان نقاش أي أمر دنيوي يعتبر مساسا بمسلمات الدين وهذا وهم بالتأكيد فما يتم نقاشة ليس الدين بذاته ولكن النقاش يكون حول مفاهيم معينة أُسقطت على الدين نتاج مذهب معين يعتمد على تفسيرات دنيوية متغيرة. فأذا وجدنا من يسلط قوته على تحجير الناس في نقاش رأي عالم أو هيئة دينية حول ظاهرة مستجدة فأننا نلاحظ أن حلقة النقاش حول هذه الظاهرة يضيق الى درجة الإختناق ثم الموت، وبذلك أستخدم الدين مشنقة لوأد أي محاولة لإيجاد بيئة حوارية، فتموت الاراء والافكار قبل أن تولد، وهذا بطبيعة الحال نتيجة خلط الناس لمفهوم الدين والمذهب، فالدين معروف وله أركانة الثابتة وهي المسلمات التي لا ينبغي الخوض فيها والتي يعرفها الصغير قبل الكبير مثل الصلاة والزكاة وغيرها ولكن المشكلة تكمن في غير المسلمات من الاراء، فمثلا عندما نناقش مسألة معينة حديثة فسوف يجبر الجميع على رأي فئة معينة من رجال الدين بالرغم ان هناك رجال دين آخرون يرون رأيا اخر وهنا يظهر الخلط بين المسلمات والمتغيرات، فأذا امنا بأن المسلمات لا نقاش حولها فلماذا يتم منع نقاش الفرعيات؟ طبعا اذا تم منع نقاش الفرعيات فلن نرى أي مساحة تـُذكر للنقاش والحوار كمنطلق للإبداع.

في إعتقادي ان المشكلة ليست في وجود السياسة اوالدين فجميعهما هام للشعوب ولكن المشكلة الحقيقة تكمن في طريقة تعاطينا لهما فالدين ضرورة من ضرورات الحياة ولكن المشكلة في فهم الدين واقحامة تحت فهم ايدولوجي ضيق تدعمة بعض العادات البالية الملتصقة بالمجتمع ورفض تطورها بالشكل المناسب مع إحتياجات الواقع، والسياسة أيضا ضرورة ولكن المشكلة في أقحامها لخدمة مصالح اشخاص معدودين وليس أمة بأكملها. والحقيقة الجلية تقول كلما كان القيد ضيقا كلما كانت عقولنا غير قادرة على العطاء؛ والناس بكل حال لا تطالب بكسر القيد، إنما تطالب بتوسيعة قليلا حتى تستطيع أن تتنفس .