قهوتنا على الانترنت
صفحة 2 من 5 الأولىالأولى 12345 الأخيرةالأخيرة
النتائج 11 إلى 20 من 46
  1. افتراضي

    بسم الله نبدا تفسير هذه السوره الكريمه

    التفسير ::::::::::الهاكم التكاثر < اى شغلكم ايها الناس التفاخر بالاموال والاولاد والرجال عن طاعه الله وعن الاستعداد للاخره <حتى زرتم المقابر اى حتى ادرككم الموت.ودفنتم فى المقابر ’والجمله يراد بهاالوعظ والتوبيخ ,,,,,,,قال القرطبى ::::::المعنى شغلكم المباهاه بكثره المال والاولاد عن طاعه الله حتى متتم ودفنتم فى المقابر <كلا سوف تعلمون اى زجر وتهديد بمعنى ارتدعوا ايها الناس وانزجرواعن الاشتغال بمالا يفيد ولا ينفع ,فسوف تعلمون عاقبه جهلكم وتفريطكم فى جنب الله ’وانشغالكم بالفانى عن الباقى <<<<ثم كلا سوف تعلمون,,,,,,,وعيد اثر وعيد زياده فى الوعظ والتهديد والزجر <<<<<<<اى سوف تعلمون عاقبه تكاثركم وتفاخركم اذا نزل بكم الموت وعانيتم اهواله وشدته..........قال ابن عباس <<<<<كلا سوف تعلمون <<ماينزل بكم من العذاب فى القبر ثم كلا سوف تعلمون اى فى الاخره اذا حل بكم العذاب <<<<<<<<<كلا لو تعلمون علم اليقين>اى ارتدعوا وانزجروا فلو علمتم العلم الحقيقى الذى لاشك فيه ولا امتراء وجواب لو محذوف لقصد التهويل اى لو عرفتم ذلك لما الهاكم التكاثر بالدنيا عن طاعه الله ,,,,,,,ولما خدعتم بنعيم الدنيا عن اهوال الاخره وشدائدها كما قال صلى الله عليه وسلم (لو تعلمون مااعلم .لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا )الحديث قال فى التسهيل :وجواب لو محذوف تقديره لو تعلمون لازدجرتم واستعددتم للاخره وانما حذف بقصد التهويل,فيقدر السامع ,اعظم ما يخطر بباله.كقوله وتعالى (ولو ترى اذوقفوا على النار )وقوله تعالى (ولترون الجحيم ) اى اقسم واؤكد بانكم ستشاهدون الجحيم عيانا ويقينا ,,قال الالوسى ::هذا جواب قسم مضمر اكد به الوعيد وشدد به التوعيد ,واوضح به ماانذروه بعد ابهامه تفخيما اى والله لترون الجحيم <<<ثم لترونها عين اليقين ::اى لترونها رؤيه حقيقيه بالمشاهد العينيه قال فى البحر ::::زاد التوكيد بقوله <<<عين اليقين ,نفيا لتوهم المجاز فى الرؤيه الاولى (ثم لتسالن يومئذ عن النعيم )اى ثم لتسالن فى الاخره عن نعيم الدنيا من الامن والصحه وسائر مايتلذذ به من مطعم ومشرب ومركب ومفرش

    تم بحمد الله ونعمته
    التعديل الأخير تم بواسطة Ahmad Misk ; 25 - 4 - 2009 الساعة 06:00 PM


  2. افتراضي

    بَين يَدَيْ السُّورَة

    * سورة المُلْك من السور المكية، شأنها شأن سائر السور المكية، التي تعالج موضوع العقيدة في أصولها الكبرى، وقد تناولت هذه السورة أهدافاً رئيسية ثلاثة وهي "إثبات عظمة الله وقدرته على الإِحياء والإِماتة .. وإِقامة الأدلة والبراهين على وحدانية رب العالمين .. ثم بيان عاقبة المكذبين الجاحدين للبعث والنشور".

    * ابتدأت السورة الكريمة بتوضيح الهدف الأول، فذكرت أن الله جل وعلا بيده المُلْك والسلطان، وهو المهيمن على الأكوان، الذي تخضع لعظمته الرقاب وتعنو له الجباه، وهو المتصرف في الكائنات بالخلق والإِيجاد، والإِحياء والإِماتة {تبارك الذي بيده المُلْك ..} الآيات.

    * ثم تحدثت عن خلق السماوات السبع، وما زيَّن الله به السماء الدنيا من الكوكب الساطعة، والنجوم اللامعة، وكلها أدلة على قدرة الله ووحدانيته {الذي خلق سبع سماواتٍ طباقاً..} الآيات.

    * ثم تناولت الحديث عن المجرمين بشيءٍ من الإِسهاب، وهم يرون جهنم تتلظى وتكاد تتقطع من شدة الغضب والغيظ على أعداء الله، وقارنت بين مآل الكافرين والمؤمنين، على طريقة القرآن في الجمع بين الترهيب والترغيب {إذا أُلقوا فيها سمعوا لها شهيقاً وهي تفور ..}.

    * وبعد أن ساقت بعض الأدلة والشواهد على عظمة الله وقدرته، حذَّرت من عذابه وسخطه أن يحل بأولئك الكفرة الجاحدين {أأمنتم منْ في السماء أن يخسف بكم الأرض فإِذا هي تمور ..} الآيات.

    * وختمت السورة الكريمة بالإِنذار والتحذير للمكذبين بدعوة الرسول، من حلول العذاب بهم في الوقت الذي كانوا يتمنون فيه موت الرسول صلى الله عليه وسلم وهلاك المؤمنين {قل أرأيتم إن أهلكني اللهُ ومن معي أو رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم} ؟ الآيات ويا له من وعيد شديد، ترتعد له الفرائص !!
    فضلهــَا:
    تسمى هذه السورة "الواقية" و"المنجية" لأنها تقي قارئها من عذاب القبر فقد قال صلى الله عليه وسلم (هي المانعة وهي المنجية، تنجى من عذاب القبر) أخرجه الترمذي.

    بعضٌ من أدلة قدرته تعالى

    {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(1)الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ(2)الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَانِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ(3)ثُمَّ ارْجِعْ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ(4)وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ(5)}

    {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} أي تمجَّد وتعالى اللهُ العلي الكبير، المفيض على المخلوقات من فنون الخيرات، الذي بقبضة قدرته ملك السماوات والأرض، يتصرف فيهما كيف يشاء، قال ابن عباس: بيده الملك، يعزُّ من يشاء ويذل من يشاء، ويحيي ويميت، ويغني ويفقر، ويعطي ويمنع {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي وهو القادر على كل شيء له القدرة التامة، والتصرف الكامل في كل الأمور، من غير منازع ولا مدافع .. ثم بيَّن تعالى آثار قدرته، وجليل حكمته فقال {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} أي أوجد في الدنيا الحياة والموت، فأحيا من شاء وأمات من شاء، وهو الواحد القهار، وإِنما قدم الموت لأنه أهيب في النفوس وأفزع قال العلماء: ليس الموت فناءً وانقطاعاً بالكلية عن الحياة، وإِنما هو انتقال من دار إِلى دار، ولهذا ثبت في الصحيح أن الميت يسمع، ويرى، ويُحسُّ وهو في قبره كما قال عليه السلام (إِنَّ أحدكم إِذا وضع في قبره وتولَّى عنه أصحابه وإِنه ليسمع قرع نعالهم) الحديث وقال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم لكنهم لا يجيبون) فالموتُ هو انقطاع تعلق الروح بالبدن، ومفارقتها للجسد {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} أي ليمتحنكم ويختبركم - أيها الناس - فيرى المحسن منكم من المسيء، قال القرطبي: أن يعاملكم معاملة المختبر، فإِن الله تعالى عالم بالمطيع والعاصي أزلاً {وَهُوَ الْعَزِيزُ} أي الغالبُ في انتقامه ممن عصاه {الْغَفُورُ} لذنوب من تاب وأناب إِليه {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} أي خلق سبع سماواتٍ متطابقة، بعضها فوق بعض، كل سماء كالقبة للأُخرى {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَانِ مِنْ تَفَاوُتٍ} أي لست ترى أيها السامع في خلق الرحمن البديع من نقص أو خلل، أو اختلاف أو تنافر، بل هي في غاية الإِحكام والإِتقان، وإِنما قال {فِي خَلْقِ الرَّحْمَانِ} ولم يقل "فيهن" تعظيماً لخلقهن، وتنبيهاً على باهر قدرة الله {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ}؟ أي فكرّر النظر في السماوات وردّده في خلقهن المحكم، هل ترى من شقوق وصدوع؟ {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} أي ثم ردِّد النظر مرةً بعد أُخرى، وانظر بعين الاعتبار في هذه السماوات العجيبة، مرةً بعد مرة {يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا} أي يرجع إِليك بصرك خاشعاً ذليلاً، لم ير ما تريد {وَهُوَ حَسِيرٌ} أي وهو كليلٌ متعب قد بلغ الغاية في الإِعياء، قال الإِمام الفخر الرازي: المعنى إِنك إِذا كررت نظرك لم يرجع إِليك بصرك بما طلبته من وجود الخلل والعيب، بل رجع خاسئاً مبعداً لم ير ما يهوى مع الكلال والإِعياء، وقال القرطبي: أي اردد طرفك وقلّب البصر في السماء {كَرَّتَيْن} أي مرةً بعد أخرى، يرجع إِليك البصر خاشعاً صاغراً، متباعداً عن أن يرى شيئاً من ذلك العيب والخلل، وإِنما أمر بالنظر كرتين، لأن الإِنسان إِذا نظر في الشيء مرة لا يرى عيبه، ما لم ينظر إِليه مرة أخرى، والمراد بالكرتين التكثير بدليل قوله {يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} وهو دليلٌ على كثرة النظر .. ثم بيَّن تعالى ما زين به السماء من النجوم الزاهرة والكواكب الساطعة فقال {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} اللام لام القسم و{قد} للتحقيق والمعنى والله لقد زينا السماء القريبة منكم أيها الناس بكواكب مضيئة ساطعة، هي السماء الأولى أقرب السماواتِ إِلى الأرض، قال المفسرون: سميت الكوكب مصابيح لإِضاءتها بالليل إِضاءة السراج {وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} أي وجعلنا لها فائدةً أُخرى وهي رجم أعدائكم الشياطين، الذين يسترقون السمع، قال قتادة: خلق الله تعالى النجوم لثلاثٍ: زينةً للسماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات يُهتدى بها في البر والبحر، وقال الخازن: فإِن قيل: كيف تكون زينةً للسماء، ورجوماً للشياطين، وكونها زينة يقتضي بقاءها، وكونها رجوماً يقتضي زوالها، فكيف الجمع بين هاتين الحالتين؟ فالجواب أنه ليس المراد أنهم يرمون بأجرام الكواكب، بل يجوز أن تنفصل من الكواكب شعلة وتُرمى الشياطين بتلك الشعلة وهي الشهب، ومثلها كمثل قبسٍ يؤخذ من النار وهي على حالها، أقول: ويؤيده قوله تعالى {إِلا من خطف الخطفة فأتبعه شهابٌ ثاقب} فعلى هذا، الكواكب لا يرحم بها، وإِنما يكون الرجم بالشهب {وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} أي وهيأنا وأعددنا للشياطين في الآخرة - بعد الإِحراق بالشهب في الدنيا - العذاب المستعر، وهو النار الموقدة.

    حال الأشقياء الكفار

    {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(6)إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ(7)تَكَادُ تَمَيَّزُمِنَالْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ(8)قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ(9)وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ(10)فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ(11)}

    {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ} أي وللكافرين بربهم عذاب جهنم أيضاً، فليس العذاب مختصاً بالشياطين بل هو لكل كافر بالله من الإِنس والجن {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي وبئست النار مرجعاً ومصيراً للكافرين .. ثم وصف تعالى جهنم وما فيها من العذاب والأهوال والأغلال فقال {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا} أي إِذا قذفوا وطرحوا في جهنم كما يطرح الحطبُ في النار العظيمة {سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا} أي سمعوا لجهنم صوتاً منكراً فظيعاً كصوت الحمار، لشدة توقدها وغليانها، قال ابن عباس: الشهيقُ لجهنم عند إِلقاء الكفار فيها، تشهق إِليهم شهقة البغلة للشعير، ثم تزفرُ زفرة لا يبقى أحدٌ إِلا خاف {وَهِيَ تَفُورُ} أي وهي تغلي بهم كما يغلي المرجل - القدر - من شدة الغضب ومن شدة اللهب، قال مجاهد: تفور بهم كما يفور الحبُّ القليل في الماء الكثير {تَكَادُ تَمَيَّزُمِنَالْغَيْظِ} أي تكاد جهنم تتقطع وينفصل بعضها من بعض، من شدة غيظها وحنقها على أعداء الله {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ} أي كلما طرح فيها جماعةٌ من الكفرة {سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا} أي سألتهم الملائكة الموكلون على جهنم - وهم الزبانية - سؤال توبيخ وتقريع { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} أي ألم يأتكم رسولٌ ينذركم ويخوفكم من هذا اليوم الرهيب؟ قال المفسرون: وهذا السؤال زيادة لهم في الإِيلام، ليزدادوا حسرةً فوق حسرتهم، وعذاباً فوق عذابهم {قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا} أيأجابوا نعم لقد جاءنا رسول منذر، وتلا عليناءايات الله، ولكننا كذبناه وانكرنا رسالته {وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} أي وقلنا إِمعاناً في التكذيب وتمادياً في النكير: ما أنزل الله شيئاً من الوحي على أحدٍ، قال الرازي: هذا اعترافٌ منهم بعدل الله، وإِقرار بأن الله أزاح عللهم ببعثة الرسل الكرم، ولكنهم كذبوا الرسل وقالوا ما نزَّل الله من شيء {إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} هذا من تتمة كلام الكفار أي ما أنتم يا معشر الرسل إِلا في بعدٍ عن الحق، وضلال واضح عميق {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ} أي وقال الكفار: لو كانت لنا عقول ننتفع بها أو كنا نسمع سماع طالب للحق، ملتمسٍ للهدى {مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} أي ما كنا نستوجب الخلود في جهنم {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبهِمْ} أي فأقروا بإِجرامهم وتكذيبهم للرسل {فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ} أي فبعداً وهلاكاً لأهل النار، قال ابن كثير: عادوا على أنفسهم بالملامة، وندموا حيث لا تنفعهم الندامة، والجملة دعائيه أي أبعدهم الله من رحمته وسحقهم سحقاً.


    حال السعداء الأبرار

    {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ(12)وَأَسِرُّوا قَوْلَكمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(13)أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ(14)هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ(15)}

    سبب نزول الآية (13):
    {وأسروا ..}: قال ابن عباس: نزلت في المشركين كانوا ينالون من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخبَّره جبريل عليه السلام بما قالوا فيه ونالوا منه، فيقول بعضهم لبعض: أسرّوا قولكم لئلا يسمع إله محمد.

    ثم لما ذكر حال الأشقياء الكفار أتبعه بذكر حال السعداء الأبرار فقال {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} أي يخافون ربهم ولم يروه، ويكفُّون عن المعاصي طلباً لمرضاة الله {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} أي لهم عند الله مغفرةٌ عظيمة لذنوبهم، وثواب جزيل لا يعلم قدره غير الله تعالى {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ} الخطاب لجميع الخلق أي أخفوا قولكم وكلامكم أيها الناس أو أعلنوه واظهروه، فسواءٌ أخفيتموه أو أظهرتموه فإِن الله يعلمه {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي لأنه تعالى العالم بالخفايا والنوايا، يعلم ما يخطر في القلوب، وما توسوس به الصدور، قال ابن عباس: نزلت في المشركين كانوا ينالون من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخبره جبريل بما قالوا، فقال بعضهم لبعض: أسرُّوا قولكم لا يسمع إِله محمد، فأخبره الإله أنه لا تخفى عليه خافية {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ}؟ أي ألا يعلم الخالق مخلوقاته؟ كيف لا يعلم سرّ المخلوقات وجهرها وهو الذي خلقها وأوجدها من عدم؟ {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} أي والحال أنه اللطيف بالعباد، الذي يعلم دقائق الأمور وغوامضها، الخبير الذي لا يعزب عن علمه شيء، فلا تتحرك ذرة، ولا تسكن أو تضطرب نفسٌ إِلا وعنده خبرها .. ثم ذكر تعالى دلائل قدرته ووحدانيته، وآثار فضله وامتنانه على العباد فقال {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً} أي الله جل وعلا جعل لكم الأرض لينةً سهلة المسالك {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} أي فاسلكوا أيها الناس في جوانبها وأطرفها، قال ابن كثير: أي فسافروا حيث شئتم من أقطارها، وتردّدوا في أقاليمها وأرجائها للمكاسب والتجارات {وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} أي وانتفعوا بما أنعم به جل وعلا عليكم من أنواع الكسب والرزق، قال الألوسي: كثيراً ما يُعبر عن وجوه الانتفاع بالأكل لأنه الأهم الأعم، وفي الآية دليل على ندب التسبب والكسب، وهو لا ينافي التوكل، فقد مرَّ عمر رضي الله عنه بقومٍ فقال: من أنتم؟ فقالوا: المتوكلون فقال: بل أنتم المتواكلون، إِنما المتوكل رجلٌ ألقى حبه في بطن الأرض وتوكل على ربه عز وجل {وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} أي وإِليه تعالى المرجع بعد الموت والفناء، للحساب والجزاء .

    توعد الله كفار مكة المكذبين

    {ءأمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ(16)أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ(17)وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ(18)أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا الرَّحْمَانُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ(19)}

    ثم توعّد تعالى كفار مكة المكذبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال {ءأَمِنتمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ} أي هل أمنتم يا معشر الكفار ربكم العليَّ الكبير أن يخسف بكم الأرض فيغيبكم في مجاهلها، بعد ما جعلها لكم ذلولاً تمشون في مناكبها؟ {فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} أي فإِذا بها تضطرب وتهتز بكم هزاً شديداً عنيفاً، قال الرازي: والمراد أنَّ الله تعالى يحرك الأرض عند الخسف بهم حتى تضطرب وتتحرك، فتعلو عليهم وهم يخسفون فيها فيذهبون، والأرضُ فوقهم تمور فتلقيهم إِلى أسفل سافلين {أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} أي أم أمنتم الله العليَّ الكبير أن يرسل عليكم حجارة من السماء، كما أرسلها على قوم لوطٍ وأصحاب الفيل؟ {فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} أي فستعلمون عند معاينة العذاب، كيف يكون إِنذاري وعقابي للمكذبين!! وفيه وعيد وتهديدٌ شديد، وأصلها {نذيري} و {نكيري} حذفت الياء مراعاة لرءوس الآيات {وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي ولقد كذبت كفار الأمم السابقة رسلهم، كقوم نوحٍ وعادٍ وثمود وأمثالهم، وهذا تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وتهديد لقومه المشركين {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي فكيف كان إِنكاري عليهم بنزول العذاب؟ ألم يكن في غاية الهول والفظاعة؟ ثم لما حذَّرهم ما عسى أن يحل بهم من الخسف وإِرسال الحاصب، نبَّههم على الاعتبار بالطير، وما أحكم الله من خلقها، وعن عجز آلهتهم المزعومة عن خلق شيءٍ من ذلك فقال {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ} أي أولم ينظروا نظر اعتبار إلى الطيور فوقهم، باسطاتٍ أجنحتهن في الجو عند طيرانها وتحليقها، {وَيَقْبِضْنَ} أي ويضممنها إِذا ضربن بها جنوبهن وقتاً بعد وقت؟ ولما كان الغالب هو فتح الجناحين فكأنه هو الثابت عبَّر عنه بالاسم {صَافَّات} وكان القبض متجدداً عبَّر عنه بالفعل {وَيَقْبِضْنَ} قال ابن جزي: فإِن قيل: لِمَ لم يقل "قابضات" على طريقة {صَافَّات}؟ فالجواب أن بسط الجناحين هو الأصل في الطيران، كما أن مدَّ الأطراف هو الأصل في السباحة، فذكره بصيغة اسم الفاعل {صَافَّات} لدوامه وكثرته، وأما قبضُ الجناحين فإِنما يفعله الطائر قليلاً للاستراحة والاستعانة، فلذلك ذكره بلفظ الفعل لقلته {مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا الرَّحْمَانُ} أي ما يمسكهن في الجو عن السقوط في حال البسط والقبض، إِلا الخالق الرحمن الذي وسعت رحمته كل ما في الأكوان، قال الرازي: وذلك أنها مع ثقلها وضخامة أجسامها، لم يكن بقاؤها في جو الهواء إِلا بإِمساك الله وحفظه، وإِلهامها كيفية البسط والقبض المطابق للمنفعة من رحمة الرحمن {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} أي يعلم كيف يخلق، وكيف يبدع العجائب، بمقتضى علمه وحكمته.

    توبيخ الله للمشركين في عبادتهم الأصنام

    {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَكُمْ يَنصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَانِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلا فِي غُرُورٍ(20)أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ(21)أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(22)قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ(23)قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(24)وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(25)قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ(26)فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ(27)}

    ثم وبَّخ تعالى المشركين في عبادتهم لما لا ينفع ولا يسمع فقال {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَكُمْ يَنصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَانِ}؟ أي من هذا الذي يستطيع أن يدفع عنكم عذاب الله من الأنصار والأعوان؟! قال ابن عباس: أي من ينصركم مني إِن أردتُ عذابكم؟ {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلا فِي غُرُورٍ} أي ما الكافرون في اعتقادهم أن آلهتهم تنفع أو تضرُّ إِلا في جهل عظيم، وضلال مبين، حيث ظنوا الأوهام حقائق، فاعتزوا بالأوثان والأصنام {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ}؟ أي من هذا الذي يرزقكم غير الله إِن منع الله عنكم رزقه؟ والخطاب في الآيتين للكفار على وجه التوبيخ والتهديد، وإِقامة الحجة عليهم {بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} أي بل تمادوا في الطغيان، وأصرّوا على العصيان، ونفروا عن الحق والإِيمان .. ثم ضرب تعال مثلاً للكافر والمؤمن فقال: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}؟ أي هل من يمشي منكساً رأسه، لا يرى طريقه فهو يخبط خبط عشواءً، مثل الأعمى الذي يتعثر كل ساعة فيخرّ لوجهه، هل هذا أهدى أم من يمشي منتصب القامة، يرى طريقه ولا يتعثر في خطواته، لأنه يسير على طريق بيّن واضح؟ قال المفسرون: هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر، فالكافر كالأعمى الماشي على غير هدى وبصيرة، لا يهتدي إلى الطريق فيتعسف ولا يزال ينكب على وجهه، والمؤمن كالرجل السويّ الصحيح البصر، الماشي على الطريق المستقيم فهو آمن من الخبط والعثار، هذا مثلهما في الدنيا، وكذلك يكون حالهما في الآخرة، المؤمن يحشر يمشي سوياً على صراط مستقيم، والكافر يحشر يمشي على وجهه إِلى دركات الجحيم، قال قتادة: الكافر أكبَّ على معاصي الله فحشره الله يوم القيامة على وجهه، والمؤمن كان على الدين الواضح فحشره الله على الطريق السويّ يوم القيامة، وقال ابن عباس: هو مثلٌ لمن سلك طريق الضلالة ولمن سلك طريق الهدى .. ثم ذكَّرهم تعالى بنعمه الجليلة، ليعرفوا قبح ما هم عليه من الكفر والإِشراك فقال {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ} أي قل لهم يا محمد: الله جل وعلا هو الذي أوجدكم من العدم، وأنعم عليكم بهذه النعم "السمع والبصر والعقل" وخصَّ هذه الجوارح بالذكر لأنها أداة العلم والفهم {قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} أي قلَّما تشكرون ربكم على نعمه التي لا تُحصى، قال الطبري: أي قليلاً ما تشكرون ربكم على هذه النعم التي أنعمها عليكم {قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ} أي خلقكم وكثَّركم في الأرض {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي وإِليه وحده مرجعكم للحساب والجزاء {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي متى يكون الحشر والجزاء الذي تعدوننا به؟ إِن كنتم صادقين فيما تخبرونا به من مجيء الساعة والحشر، وهذا استهزاء منهم {قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ} أي قل لهم يا محمد: علم وقت قيام الساعة ووقت العذاب عند الله تعالى لا يعلمه غيره {وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} أي وما أنا إِلا رسولٌ منذر أخوفكم عذاب الله امتثالاً لأمره .. ثم أخبر تعالى عن حال المشركين في ذلك اليوم العصيب فقال {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً} أي فلما رأوا العذاب قريباً منهم، وعاينوا أهوال القيامة {سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي ظهرت على وجوههم آثار الاستياء، فعلتها الكآبة والغم والحزن، وغشيها الذل والانكسار، قال أبو حيّان: أي ساءت رؤية العذاب وجوههم، وظهر فيها السوء والكآبة، كمن يساق الى القتل {وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} أي وقالت لهم الملائكة توبيخاً وتبكيتاً: هذا الذي كنتم تطلبونه في الدنيا وتستعجلونه استهزاءً وتكذيباً.

    دعاء كفار مكة على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالهلاك

    {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِي اللَّهُ وَمَنْ مَعِي أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ(28)قُلْ هُوَ الرَّحْمَانُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ(29)قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ(30)}

    {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِي اللَّهُ وَمَنْ مَعِي أَوْ رَحِمَنَا} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يتمنون هلاكك: أخبروني إن أماتني الله ومن معي من المؤمنين، أو رحمنا بتأخير آجالنا {فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} أي فمن يحميكم من عذاب الله الأليم، ووضع لفظ {الْكَافِرِينَ} عوضاً عن الضمير "يجيركم" تشنيعاً وتسجيلاً عليهم بالكفر، قال المفسرون: كان الكفار يتمنون هلاك النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فأمره الله أن يقول لهم: إِن أهلكني الله بالإِماتة وأهلك من معي، فأي راحةٍ وأي منفعة لكم فيه، ومن الذي يجيركم من عذاب الله إِذا نزل بكم؟ هل تظنون أن الأصنام تخلصكم وتنقذكم من العذاب الأليم؟ {قُلْ هُوَ الرَّحْمَانُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} أي قل لهم: آمنا بالله الواحد الأحد، وعليه اعتمدنا في جميع أمورنا، لا على الأموال والرجال {فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي فسوف تعلمون عن قريب من هو في الضلالة نحن أم أنتم؟ وفيه تهديد للمشركين {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا} أي قل لهم يا محمد: أخبروني إِذا صار الماء غائراً ذاهباً في أعماق الأرض، بحيث لا تستطيعون إِخراجه {فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} أي فمن الذي يخرجه لكم حتى يكون ظاهراً جارياً على وجه الأرض؟ هل يأتيكم غير الله به؟ فلم تشركون مع الخالق الرازق غيره من الأصنام والأوثان؟


  3. افتراضي

    {لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور "49" أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً ويجعل من يشاء عقيماً إنه عليم قدير "50"}
    (سورة الشورى)

    والأصل في الذرية أنها تأتي من اجتماع الذكر والأنثى .. هذا هو القانون .. ولكن القوانين لا تعمل إلا بأمر الله .. لذلك يتزوج الرجل والمرأة ولا تأتي الذرية لأنه ليس القانون هو الذي يخلق .. ولكنها إرادة خالق القانون .. إن شاء جعله يعمل .. وإن شاء يبطل عمله .. والله سبحانه وتعالى لا تحكمه القوانين ولكنه هو الذي يحكمها.
    وكما أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يجعل القوانين تفعل أو لا تفعل .. فهو قادر على أن يخرق القوانين .. خذ مثلا قصة زكريا عليه السلام .. كان يكفل مريم ويأتيها بكل ما تحتاجه .. ودخل عليها ليجد عندها ما لم يحضره لها ..
    وسألها وهي القديسة العابدة الملازمة لمحرابها..

    {قال يا مريم أني لك هذا "37" }
    (سورة آل عمران)

    الحق سبحانه وتعالى يعطينا هذه الصورة .. مع أن مريم بسلوكها وعبادتها وتقواها فوق كل الشبهات .. ولكن لنعرف أن الذي يفسد الكون .. هو عدم السؤال عن مصدر الأشياء التي تتناسب مع قدرات من يحصل عليها..
    الأم ترى الأب ينفق ما لا يتناسب مع مرتبه .. وترى الابنة ترتدي ما هو اكبر كثيرا من مرتبها أو مصروفها .. ولو سألت الأم أو الابنة من أين لك هذا؟ لما فسد المجتمع .. ولكن الفساد يأتي من أننا نغمض أعيننا عن المال الحرام.
    بماذا ردت مريم عليها السلام؟

    {قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب "37"}
    (سورة آل عمران)

    إذن فطلاقة قدرة الله لا يحكمها قانون .. لقد لفتت مريم زكريا عليهما السلام إلي طلاقة القدرة .. فدعا زكريا ربه في قضية لا تنفع فيها إلا طلاقة القدرة .. فهو رجل عجوز وامرأته عجوز وعاقر ويريد ولدا .. هذه قضية ضد قوانين الكون .. لأن الإنجاب لا يتم إلا وقت الشباب، فإذا كبر الرجل وكبرت المرأة لا ينجبان .. فما بالك إذا كانت الزوجة أساسا عاقرا .. لم تنجب وهي شابة وزوجها شاب .. فكيف تنجب وهي عجوز وزوجها عجوز .. هذه مسألة ضد القوانين التي تحكم البشر .. ولكن الله وحده القادر على أن يأتي بالقانون وضده .. ولذلك شاء أن يرزق زكريا بالولد وكان .. ورزق زكريا بابنه يحيى.
    إذن كل شيء في هذا الكون باسم الله .. يتم باسم الله وبإذن من الله .. الكون تحكمه الأسباب نعم ولكن إرادة الله فوق كل الأسباب.
    أنت حين تبدأ كل شيء باسم الله .. كأنك تجعل الله في جانبك يعينك .. ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أنه علمنا أن نبدأ كل شيء باسم الله .. لأن الله هو الاسم الجامع لصفات الكمال سبحانه وتعالى .. والفعل عادة يحتاج إلي صفات متعددة .. فأنت حين تبدأ عملا تحتاج إلي قدرة الله وإلي عونه وإلي رحمته .. فلو أن الله سبحانه وتعالى لم يخبرنا بالاسم الجامع لكل الصفات .. كان علينا أن نحدد الصفات التي نحتاج إليها .. كأن نقول باسم الله القوي وبسم الله الرزاق وبسم الله المجيب وبسم الله القادر وبسم الله النافع .. إلي غير ذلك من الأسماء والصفات التي نريد أن نستعين بها .. ولكن الله تبارك وتعالى جعلنا نقول بسم الله الجامع لكل هذه الصفات.
    على أننا لابد أن نقف هنا عند الذين لا يبدأون أعمالهم بسم الله وإنما يريدون الجزاء المادي وحده .. إنسان غير مؤمن لا يبدأ عمله بسم الله .. وإنسان مؤمن يبدأ كل عمل وفي باله الله .. كلاهما يأخذ من الدنيا لأن الله رب للجميع .. له عطاء ربوبية لكل خلقه الذين استدعاهم للحياة .. ولكن الدنيا ليست هي الحياة الحقيقية للإنسان .. بل الحياة الحقيقية هي الآخرة .. الذي في باله الدنيا وحدها يأخذ بقدر عطاء البربوبية .. بقدر عطاء الله في الدنيا .. والذي في باله الله يأخذ بقده عطاء الله في الدنيا والآخرة .. ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى:

    {الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير "1"}
    (سورة سبأ)

    لأن المؤمن يحمد الله على نعمه في الدنيا .. ثم يحمده عندما ينجيه من النار والعذاب ويدخله الجنة في الآخرة .. فلله الحمد في الدنيا والآخرة.
    ورسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

    < كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم أقطع" >

    ومعنى أقطع أي مقطوع الذنب أو الذيل .. أي عمل ناقص فيه شيء ضائع .. لأنك حين لا تبدأ العمل بسم الله قد يصادفك الغرور والطغيان بأنك أنت الذي سخرت ما في الكون ليخدمك وينفعل لك .. وحين لا تبدأ العمل ببسم الله .. فليس لك عليه جزاء في الآخرة فتكون قد أخذت عطاءه في الدنيا .. وبترت أو قطعت عطاءه في الآخرة .. فإذا كنت تريد عطاء الدنيا والآخرة. أقبل على كل عمل بسم الله .. قبل أن تأكل قل بسم الله لأنه هو الذي خلق لك هذا الطعام ورزقك به .. عندما تدخل الامتحان قل بسم الله فيعينك على النجاح .. عندما تدخل إلي بيتك قل بسم الله لأنه هو الذي يسر لك هذا البيت .. عندما تتزوج قل بسم الله لأنه هو الذي خلق هذه الزوجة وأباحها لك .. في كل عمل تفعله ابدأه بسم الله .. لأنها تمنعك من أي عمل يغضب الله سبحانه وتعالى .. فأنت لا تستطيع أن تبدأ عملا يغضب الله .. وتذكرت بسم الله .. فإنك ستمتنع عنه .. ستسحي أن تبدأ عملا بسم الله يغضب الله .. وهكذا ستكون أعمالك


    اسفه على التاخير لانى عندى مشاكل صحيه دعواتكم

  4. افتراضي

    وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون "11") سوره البقره




    الفساد في الأرض هو أن تعمد إلي الصالح فتفسده، وأقل ما يطلب منك في الدنيا، أن تدع الصالح لصلاحه، ولا تتدخل فيه لتفسده، فإن شئت أن ترتقي إيمانيا، تأتي للصالح، وتزيد من صلاحه، فإن جئت للصالح وأفسده فقد أفسدت فسادين، لأن الله سبحانه وتعالى، أصلح لك مقومات حياتك في الكون، فلم تتركها على الصلاح الذي خلقت به، وكان تركها في حد ذاته، بعدا عن الفساد، بل جئت إليها، وهي صالحة بخلق الله لها فأفسدتها، فأنت لم تستقبل النعمة الممنوحة لك من الله، بأن تتركها تؤدي مهمتها في الحياة، ولم تزد في مهمتها صلاحا، ولكنك جئت إلي هذه المهمة فأفسدتها .. فلو أن هناك بئرا يشرب منها الناس، فهذه نعمة لضرورة حياتهم، تستطيع أنت بأسباب الله في كون الله أن تأتي وتصلحها، بأن تبطن جدرانها بالحجارة، حتى تمنع انهيار الرمال داخلها، أو أن تكون قد أفسدت الصالح في الحياة.
    وهكذا المنافقون .. أنزل الله تعالى منهجا للحياة الطيبة للإنسان على الأرض، وهؤلاء المنافقون بذلوا كل ما في جهدهم لإفساد هذا المنهج، بأن تآمروا ضده وادعوا أنه مؤمنون به ليطعنوا الإسلام في داخله. ولقد تنبه أعداء الإسلام، إلي أن هذا الدين القوي الحق، لا يمكن أن يتأثر بطعنات الكفر، بل يواجهها ويتغلب عليها. فما قامت معركة بين حق وباطل إلا انتصر الحق، ولقد حاول أعداء الإسلام أن يواجهوه سنوات طويلة، ولكنهم عجزوا، ثم تنبهوا إلي أن هذا الدين لا يمكن أن يهزم إلا من داخله، وأن استخدام المنافقين في الإفساد، هو الطريقة الحقيقية لتفريق المسلمين، فانطلقوا إلي المسلمين اسما ليتخذوا منهم الحربة التي يوجهونها ضد الإسلام، وظهرت مذاهب واختلافات، وما أسموه العلمانية واليسارية وغير ذلك، كل هذا قام به المنافقين في الإسلام وغلفوه بغلاف إسلامي، ليفسدوا في الأرض ويحاربوا منهج الله.
    وإذا لفت المؤمنون نظرهم إلي أنهم يفسدون في الأرض، وطلبوا منهم أن يمتنعوا عن الإفساد، ادعوا أنهم لا يفسدون ولكنهم يصلحون، وأي صلاح في عدم اتباع منهج الله والخروج عليه بأي حجة من الحجج؟




  5. افتراضي

    (ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون "12")



    وهكذا يعطينا الله سبحانه وتعالى حكمه عليهم بأنهم كما أنهم يخدعون أنفسهم ولا يشعرون ويحسبون أنهم يخدعون الله سبحانه وتعالى والمؤمنين. كذلك فإنهم يفسدون في الأرض ويدعون أنهم مصلحون، ولكنهم في الحقيقة مفسدون لماذا؟ .. لأن في قلوبهم كفراً وعداء لمنهج الله، فلو قاموا بأي عمل يكون ظاهره الإصلاح، فحقيقته هي الإفساد، تماماً كما ينطقون بألسنتهم بما ليس في قلوبهم.
    والكون لا يصلح إلا بمنهج الله، فالله سبحانه وتعالى هو الذي خلق، وهو الذي أوجد، وهو أدرى بصنعته وبما يفسدها وبما يصلحها، لأنه هو الصانع، ولا يوجد من يعلم سر ما يصلح صنعته أكثر من صانعها.
    ونحن في المنهج الدنيوي إذا أردنا إصلاح شيء اتجهنا لصانعه، فهو الذي يستطيع أن يدلنا على الإصلاح الحقيقي لهذا الشيء، فإذا لم يكن صانعه موجوداً في نفس البلدة .. اتجهنا إلي من دربهم الصانع على الإصلاح، أو إلي ما يسمونه "الكتالوج" الذي يبين لنا طريق الإصلاح، وبدون هذا لا نصلح، بل نفسد، والعجيب أننا نتبع هذه الطريقة في حياتنا الدنيوية، ثم نأتي إلي الإنسان والكون، فبدلا من أن نتجه إلي صانعه وخالقه لنأخذ عنه منهج الإصلاح، وهو أدرى بصنعته، نتيجة إلي خلق الله يضعون لنا المناهج التي تفسد، وظاهرها الإصلاح لكنها تزيد الأمور سوءا والغريب أننا نسمي هذا فلاحا، ونسميه تقدما. ولكن لماذا لا نتجه إلي الصانع أو الخالق، الذي أوجد وخلق؟ هو سبحانه وتعالى أدرى بخلقه وبما يصلحهم وما يفسدهم.
    ومادام الحق سبحانه وتعالى، قد حكم على المنافقين، بأنهم هم المفسدون فذلك حكم يقيني، وكل من يحاول أن يغير من منهج الله، أو يعطل تطبيقه بحجة الإصلاح، فهو مفسد وإن كان لا يشعر بذلك، لأنه لو أراد إصلاحا لاتجه إلي ما يصلح الكون، وهو المنهج السماوي الذي أنزله خالق هذا الكون وصانعه، وهذا المنهج موجود ومبلغ ولا يخفي على أحد
    .




  6. افتراضي

    اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ (3) مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)
    بيان
    غرض السورة دعوة المؤمنين إلى توحيد الكلمة في الدين، و الصبر و الثبات في حماية حماه بتنبيههم بما هم عليه من دقة الموقف لمواجهتهم أعداء كاليهود و النصارى و المشركين و قد جمعوا جمعهم و عزموا عزمهم على إطفاء نور الله تعالى بأيديهم و بأفواههم.
    و يشبه أن تكون هذه السورة نازلة دفعة واحدة فإن آياتها و هي مائتا آية - ظاهرة الاتساق و الانتظام من أولها إلى آخرها، متناسبة آياتها، مرتبطة أغراضها.
    و لذلك كان مما يترجح في النظر أن تكون السورة إنما نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و قد استقر له الأمر بعض الاستقرار و لما يتم استقراره، فإن فيها ذكر غزوة أحد، و فيها ذكر المباهلة مع نصارى نجران و ذكرا من أمر اليهود، و حثا على المشركين، و دعوة إلى الصبر و المصابرة و المرابطة، و جميع ذلك يؤيد أن السورة نزلت أيام كان المسلمون مبتلين بالدفاع عن حمى الدين بعامة قواهم و جميع أركانهم، فمن جانب كانوا يقاومون الفشل و الفتور اللذين يدبان في داخل جماعتهم بفتنة اليهود و النصارى، و يحاجونهم و يجاوبونهم، و من جانب كانوا يقاتلون المشركين، و يعيشون في حال الحرب و انسلاب الأمن، فقد كان الإسلام في هذه الأيام قد انتشر صيته فثارت الدنيا عليه من اليهود و النصارى و مشركي العرب، و وراء ذلك الروم و العجم و غيرهم.
    و الله سبحانه يذكر المؤمنين في هذه السورة من حقائق دينه الذي هداهم به ما يطيب به نفوسهم، و يزول به رين الشبهات و الوساوس الشيطانية و تسويلات أهل الكتاب عن قلوبهم، و يبين لهم: أن الله سبحانه لم يغفل عن تدبير ملكه، و لم يعجزه خلقه، و إنما اختار دينه و هدى جمعا من عباده إليه على طريقة العادة الجارية، و السنة الدائمة، و هي سنة العلل و الأسباب، فالمؤمن و الكافر جاريان على سنة الأسباب، فيوم للكافر و يوم للمؤمن، فالدار دار الامتحان، و اليوم يوم العمل، و الجزاء غدا.
    قوله تعالى الله لا إله إلا هو الحي القيوم، قد مر الكلام فيه في تفسير آية الكرسي، و تحصل من هناك أن المراد به بيان قيامه تعالى أتم القيام على أمر الإيجاد و التدبير، فنظام الموجودات بأعيانها و آثارها تحت قيمومة الله لا مجرد قيمومة التأثير كالقيمومة في الأسباب الطبيعية الفاقدة للشعور بل قيمومة حياة تستلزم العلم و القدرة، فالعلم الإلهي نافذ فيها لا يخفى عليه شيء منها و القدرة مهيمنة عليها لا يقع منها إلا ما شاء وقوعه و أذن فيه، و لذلك عقبه بقوله بعد آيتين: إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض و لا في السماء هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء.
    و لما كانت هذه الآيات الست في أول السورة على طريق براعة الاستهلال مشتملة على إجمال ما تحتويه السورة من التفصيل - و قد مر ذكر غرض السورة - كانت هذه الآية بمنزلة تصدير الكلام بالبيان الكلي الذي يستنتج به الغرض، كما أن الآيتين الأخيرتين أعني قوله: إن الله لا يخفى عليه «الخ» بمنزلة التعليل بعد البيان، و على هذا فالكلام التي يتم به أمر براعة الاستهلال هما الآيتان المتوسطتان أعني قوله: نزل عليك الكتاب إلى قوله عزيز ذو انتقام. و على هذا فيعود المعنى إلى أنه يجب على المؤمنين أن يتذكروا أن الله الذي آمنوا به واحد في ألوهيته قائم على الخلق و التدبير قيام حياة، لا يغلب في ملكه و لا يكون إلا ما شاء و أذن فيه فإنهم إذا تذكروا ذلك علموا أنه هو المنزل للكتاب الهادي إلى الحق، و الفرقان المميز بين الحق و الباطل، و أنه إنما جرى في ذلك على ما أجري عليه عالم الأسباب، و ظرف الاختيار، فمن آمن فله أجره، و من كفر فإن الله سيجزيه لأنه عزيز ذو انتقام، و ذلك أنه الله الذي لا إله غيره حتى يحكم في هذه الجهات، و لا يخفى عليه أمرهم، و لا يخرج عن إرادته و مشيئته فعالهم و كفرهم.
    قوله تعالى: نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه، قد مر أن التنزيل يدل على التدريج كما أن الإنزال يدل على الدفعة.
    و ربما ينقض ذلك بقول: «لو لا نزل عليه القرءان جملة واحدة»: الفرقان - 32، و بقوله تعالى: «أن ينزل علينا مائدة»: المائدة - 112، و قوله تعالى: «لو لا نزل عليه ءاية»: الأنعام - 37، و قوله تعالى: «قل إن الله قادر على أن ينزل ءاية»: الأنعام - 37، و لذلك ذكر بعض المفسرين: أن الأولى أن يقال: إن معنى نزل عليك الكتاب: أنزله إنزالا بعد إنزال دفعا للنقض.
    و الجواب: أن المراد بالتدريج في النزول ليس هو تخلل زمان معتد به بين نزول كل جزء من أجزاء الشيء و بين جزئه الآخر بل الأشياء المركبة التي توجد بوجود أجزائها لوجودها نسبة إلى مجموع الأجزاء و بذلك يصير الشيء أمرا واحدا غير منقسم، و التعبير عنه من هذه الجهة بالنزول كقوله تعالى: «أنزل من السماء ماء»: الرعد - 17 و هو الغيث.
    و نسبته من حيث وجوده بوجود أجزائه واحدا بعد واحد سواء تخلل بينهما زمان معتد به أو لم يتخلل و هو التدريج، و التعبير عنه بالتنزيل كقوله تعالى: «و هو الذي ينزل الغيث»: الشورى - 28.
    و من هنا يظهر: أن الآيات المذكورة للنقض غير ناقضة - فإن المراد بقوله لو لا نزل عليه القرءان جملة واحدة الآية: أن ينزل عليه القرآن آية بعد آية في زمان متصل واحد من غير تخلل زمان معتد به كما كان عليه الأمر في نزول القرآن في الشئون و الحوادث و الأوقات المختلفة، و بذلك يظهر الجواب عن بقية الآيات المذكورة.
    و أما ما ذكره البعض المزبور فهو على أنه استحسان غير جائز في اللغة البتة، لا يدفع شيئا من النقض بالآيات المذكورة، بل هي بحالها و هو ظاهر.
    و قد جرى كلامه تعالى أن يعبر عن إفاضة الكتاب على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتنزيل و النزول، و النزول يستلزم مقاما أو مكانا عاليا رفيعا يخرج منه الشيء نوعا من الخروج و يقصد مقاما أو مكانا آخر أسفل فيستقر فيه، و قد وصف نفسه تعالت ذاته بالعلو و رفعة الدرجات و قد وصف كتابه أنه من عنده، قال تعالى: «إنه علي حكيم»: الشورى - 51، و قال تعالى: «و لما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم»: البقرة - 89، فصح بذلك استعمال لفظ النزول في مورد استقرار الوحي في قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و قد ذكروا أن الحق هو الخبر من حيث إن بحذائه خارجا ثابتا كما أن الصدق هو الخبر من حيث إنه مطابق للخارج، و على هذا فإطلاق الحق على الأعيان الخارجية و الأمور الواقعية كما يطلق على الله سبحانه: أنه حق، و على الحقائق الخارجية أنها حقة إنما هو من جهة أن كلا منها حق من جهة الخبر عنها، و كيف كان فالمراد بالحق في الآية: الأمر الثابت الذي لا يقبل البطلان.
    و الظاهر أن الباء في قوله: بالحق للمصاحبة و المعنى: نزل عليك الكتاب تنزيلا يصاحب الحق و لا يفارقه، فيوجب مصاحبة الحق أن لا يطرأ عليه و لا يخالطه باطل فهو في أمن من جهة ظهور الباطل عليه، ففي قوله: نزل عليك الكتاب بالحق استعارة بالكناية، و قد قيل في معنى الباء وجوه أخر لا يخلو عن سقم.
    و التصديق من الصدق يقال صدقت مقالا كذا أي قررته على الصدق و اعترفت بكونه صدقا و صدقت فلانا أي اعترفت بصدقه فيما يخبر به.
    و المراد مما بين يديه التوراة و الإنجيل كما قال تعالى: «إنا أنزلنا التوراة فيها هدى إلى أن قال: و ءاتيناه الإنجيل فيه هدى إلى أن قال: و أنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب الآية:» المائدة - 48، و الكلام لا يخلو عن دلالة على أن ما بأيدي اليهود و النصارى من التوراة و الإنجيل لا يخلو عن بعض ما أنزله الله على موسى و عيسى (عليهما السلام)، و إن كانا لا يخلوان عن السقط و التحريف، فإن الدائر بينهم في عصر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو التوراة الموجودة اليوم و الأناجيل الأربعة المشهورة، فالقرآن يصدق التوراة و الإنجيل الموجودين، لكن في الجملة لا بالجملة لمكان الآيات الناطقة بالتحريف و السقط فيهما قال تعالى: «و لقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل إلى أن قال: و جعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه و نسوا حظا مما ذكروا به إلى أن قال: و من الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به الآية: المائدة - 14.


    قوله تعالى: و أنزل التوراة و الإنجيل من قبل هدى للناس، التوراة كلمة عبرانية بمعنى الشريعة، و الإنجيل لفظ يوناني، و قيل فارسي الأصل معناه البشارة، و سيجيء استيفاء البحث عن الكتابين في قوله تعالى: «إنا أنزلنا التوراة فيها هدى و نور الآيات:» المائدة - 44.
    و مما أصر عليه القرآن تسمية كتاب عيسى (عليه السلام) بالإنجيل بصيغة الإفراد و القول بأنه نازل من عند الله سبحانه مع أن الأناجيل كثيرة، و المعروفة منها أعني الأناجيل الأربعة كانت موجودة قبل نزول القرآن و في عهده، و هي التي ينسب تأليفها إلى لوقا و مرقس و متى و يوحنا، و لا يخلو ما ذكرناه من إفراد الاسم و التوصيف بالنزول عن دلالة على التحريف و الإسقاط، و كيف كان لا يخلو ذكر التوراة و الإنجيل في هذه الآية و في أول السورة من التعريض لليهود و النصارى على ما سيذكره من أمرهم و قصص تولد عيسى و نبوته و رفعه.
    قوله تعالى: و أنزل الفرقان، الفرقان ما يفرق به بين الحق و الباطل على ما في الصحاح، و اللفظ بمادته يدل على الأعم من ذلك، و هو كل ما يفرق به بين شيء و شيء.
    قال تعالى: «يوم الفرقان يوم التقى الجمعان:» الأنفال - 41، و قال تعالى: «يجعل لكم فرقانا»: الأنفال - 29.
    و إذا كان الفرق المطلوب عند الله فيما يرجع إلى معنى الهداية هو الفرق بين الحق و الباطل في العقائد و المعارف و بين وظيفة العبد و ما ليس بوظيفة له بالنسبة إلى الأعمال الصادرة عنه في الحياة الدنيا انطبق معناه على مطلق المعارف الأصلية و الفرعية التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه بالوحي، أعم من الكتاب و غيره.
    قال تعالى: «و لقد ءاتينا موسى و هارون الفرقان»: الأنبياء - 48، و قال تعالى: «و إذ ءاتينا موسى الكتاب و الفرقان»: البقرة - 53، و قال تعالى «تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا»: الفرقان - 1.
    و قد عبر تعالى عن هذا المعنى بالميزان في قوله: «لقد أرسلنا رسلنا بالبينات و أنزلنا معهم الكتاب و الميزان ليقوم الناس بالقسط»: الحديد - 25.
    و هو في وزان قوله: «كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين و منذرين و أنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه: البقرة - 213.
    فالميزان كالفرقان هو الدين الذي يحكم بين الناس بالعدل مع ما ينضم إليه من المعارف و وظائف العبودية، و الله أعلم.
    و قيل: المراد بالفرقان القرآن.
    و قيل: الدلالة الفاصلة بين الحق و الباطل.
    و قيل: الحجة القاطعة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على من حاجه في أمر عيسى.
    و قيل النصر.
    و قيل: العقل.
    و الوجه ما قدمناه.
    قوله تعالى: إن الذين كفروا بآيات الله إلى قوله ذو انتقام، الانتقام على ما قيل مجازاة المسيء على إساءته، و ليس من لازم المعنى أن يكون للتشفي، فإن ذلك من لوازم الانتقامات التي بيننا حيث إن إساءة المسيء يوجب منقصة و ضررا في جانبنا فنتدارك ذلك بالمجازاة الشديدة التي توجب تشفي قلوبنا، و أما هو تعالى فأعز ساحة من أن ينتفع أو يتضرر بشيء من أعمال عباده لكنه وعد - و له الوعد الحق - أن سيقضي بين عباده بالحق إن خيرا فخيرا و إن شرا فشرا.


    قال تعالى: «و الله يقضي بالحق»
    : المؤمن - 20، و قال تعالى: «ليجزي الذين أساءوا بما عملوا و يجزي الذين أحسنوا بالحسنى»: النجم - 31.
    كيف و هو عزيز على الإطلاق منيع الجانب من أن ينتهك محارمه.
    و قد قيل إن الأصل في معنى العزة الامتناع.
    و قوله تعالى: إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد، من حيث إطلاق العذاب و عدم تقييده بالآخرة أو يوم القيامة ربما تضمن الوعيد بالعذاب في الدنيا كما في الآخرة.
    و هذا من الحقائق القرآنية التي ربما قصر الباحثون في استيفاء البحث عنه و ليس ذلك إلا لكوننا لا نعد شيئا عذابا إلا إذا اشتمل على شيء من الآلام الجسمانية، أو نقص أو فساد في النعم المادية كذهاب الأموال و موت الأعزة و نقاهة الأبدان، مع أن الذي يعطيه القرآن بتعليمه أمر وراء ذلك.
    كلام في معنى العذاب في القرآن
    القرآن يعد معيشة الناسي لربه ضنكا و إن اتسعت في أعيننا كل الاتساع.
    قال تعالى: «و من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا»: طه - 124، و يعد الأموال و الأولاد عذابا و إن كنا نعدها نعمة هنيئة قال تعالى: «و لا تعجبك أموالهم و أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الدنيا و تزهق أنفسهم و هم كافرون»: التوبة - 85.
    و حقيقة الأمر كما مر إجمال بيانه في تفسير قوله تعالى: «و قلنا يا ءادم اسكن أنت و زوجك الجنة»:، البقرة - 35، أن سرور الإنسان و غمه و فرحه و حزنه و رغبته و رهبته و تعذبه و تنعمه كل ذلك يدور مدار ما يراه سعادة أو شقاوة، هذا أولا.
    و أن النعمة و العذاب و ما يقاربهما من الأمور تختلف باختلاف ما تنسب إليه فللروح سعادة و شقاوة و للجسم سعادة و شقاوة و كذا للحيوان منهما شيء و للإنسان منهما شيء و هكذا، و هذا ثانيا.
    و الإنسان المادي الدنيوي الذي لم يتخلق بأخلاق الله تعالى، و لم يتأدب بأدبه يرى السعادة المادية هي السعادة و لا يعبأ بسعادة الروح و هي السعادة المعنوية.
    فيتولع في اقتناء المال و البنين و الجاه و بسط السلطة و القدرة.
    و هو و إن كان يريد من قبل نفس هذا الذي ناله لكنه ما كان يريد إلا الخالص من التنعم و اللذة على ما صورته له خياله و إذا ناله رأى الواحد من اللذة محفوفا بالألوف من الألم.

    فما دام لم ينل ما يريده كان أمنية و حسرة و إذا ناله وجده غير ما كان يريده لما يرى فيه من النواقص و يجد معه من الآلام و خذلان الأسباب التي ركن إليها و لم يتعلق قلبه بأمر فوقها فيه طمأنينة القلب و السلوة عن كل فائتة فكان أيضا حسرة فلا يزال فيما وجده متألما به معرضا عنه طالبا لما هو خير منه لعله يشفي غليل صدره و فيما لم يجده متقلبا بين الآلام و الحسرات.
    فهذا حاله فيما وجده، و ذاك حاله فيما فقده.
    و أما القرآن فإنه يرى أن الإنسان أمر مؤلف من روح خالد و بدن مادي متحول متغير، و هو على هذا الحال حتى يرجع إلى ربه فيتم له الخلود من غير زوال، فما كان فيه سعادة الروح محضا كالعلم و نحو ذلك فهو من سعادته، و ما كان فيه سعادة جسمه و روحه معا كالمال و البنين إذا لم تكن شاغلة عن ذكر الله، و موجبة للإخلاد إلى الأرض فهو أيضا من سعادته و نعمت السعادة.
    و كذا ما كان فيه شقاء الجسم و نقص لما يتعلق بالبدن و سعادة الروح الخالد كالقتل في سبيل الله و ذهاب المال و اليسار لله تعالى فهو أيضا من سعادته بمنزلة التحمل لمر الدواء ساعة لحيازة الصحة دهرا.
    و أما ما فيه سعادة الجسم و شقاء الروح فهو شقاء للإنسان و عذاب له و القرآن يسمى سعادة الجسم فقط متاعا قليلا لا ينبغي أن يعبأ به قال تعالى: «لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأويهم جهنم و بئس المهاد»: آل عمران - 196 197.
    و كذا ما فيه شقاء الجسم و الروح معا يعده القرآن عذابا كما يعدونه عذابا لكن وجه النظر مختلف، فإنه عذاب عنده لما فيه من شقاء الروح و عذاب عندهم لما فيه من شقاء الجسم، و ذلك كأنواع العذاب النازلة على الأمم السالفة، قال تعالى: «أ لم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد و ثمود الذين جابوا الصخر بالواد و فرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد»: الفجر - 6 14.
    و السعادة و الشقاوة لذوي الشعور يتقومان بالشعور و الإدراك فإنا لا نعد الأمر اللذيذ الذي نلناه و لم نحس به سعادة لأنفسنا كما لا نعد الأمر المؤلم غير المشعور به شقاء، و من هنا يظهر أن هذا التعليم القرآني الذي يسلك في السعادة و الشقاوة غير مسلك المادة، و الإنسان المولع بالمادة لا بد من أن يستتبع نوع تربية يرى بها الإنسان السعادة الحقيقية التي يشخصها القرآن سعادة و الشقاوة الحقيقية شقاوة، و هو كذلك، فإنه يلقن على أهله: أن لا يتعلق قلوبهم بغير الله، و يروا أن ربهم هو المالك الذي يملك كل شيء فلا يستقل شيء إلا به، و لا يقصد شيء إلا له.
    و هذا الإنسان لا يرى لنفسه في الدنيا إلا السعادة بين ما كان فيه سعادة روحه و جسمه، و ما كان فيه سعادة روحه محضا، و أما ما دون ذلك فإنه يراه عذابا و نكالا، و أما الإنسان المتعلق بهوى النفس و مادة الدنيا فإنه و إن كان ربما يرى ما اقتناه من زينة الدنيا سعادة لنفسه و خيرا و لذة فإنه سوف يطلع على خبطه في مشيه، و انقلبت سعادته المظنونة بعينها شقاوة عليه قال تعالى: «فذرهم يخوضوا و يلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون: المعارج - 42، و قال تعالى: «لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد»: ق - 22، و قال تعالى: «فأعرض عمن تولى عن ذكرنا و لم يرد إلا الحيوة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم»: النجم - 30، على أنهم لا يصفو لهم عيش إلا و هو منغص بما يربو عليه من الغم و الهم.
    و من هنا يظهر: أن الإدراك و الفكر الموجود في أهل الله و خاصة القرآن غيرهما في غيرهم مع كونهم جميعا من نوع واحد هو الإنسان، و بين الفريقين وسائط من أهل الإيمان ممن لم يستكمل التعليم و التربية الإلهيين.
    فهذا ما يتحصل من كلامه تعالى في معنى العذاب و كلامه تعالى مع ذلك لا يستنكف عن تسمية الشقاء الجسماني عذابا لكن نهايته أنه عذاب في مرحلة الجسم دون الروح، قال تعالى حكاية عن أيوب (عليه السلام): «أني مسني الشيطان بنصب و عذاب»: ص - 41، و قال تعالى: «و إذ أنجيناكم من ءال فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم و يستحيون نساءكم و في ذلك بلاء من ربكم عظيم»: الأعراف - 141، فسمى ما يصنعون بهم بلاء و امتحانا من الله و عذابا في نفسه لا منه سبحانه.
    قوله تعالى: إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض و لا في السماء الخ، قد علل تعالى عذاب الذين كفروا بآياته بأنه عزيز ذو انتقام لكن لما كان هذا التعليل لا يخلو عن حاجة إلى ضميمة تنضم إليه ليتم المطلوب فإن العزيز ذا الانتقام يمكن أن يخفى عليه كفر بعض من كفر بنعمته فلا يبادر بالعذاب و الانتقام، فعقب لذلك الكلام بقوله: إن الله لا يخفى عليه، فبين أنه عزيز لا يخفى عليه شيء ظاهر على الحواس و لا غائب عنها، و من الممكن أن يكون المراد مما في الأرض و ما في السماء الأعمال الظاهرة القائمة بالجوارح و الخفية الكامنة في القلوب على حد ما نبهنا عليه في قوله تعالى: «لله ما في السموات و ما في الأرض و إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله الآية: البقرة - 284.
    قوله تعالى: هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء، التصوير إلقاء الصورة على الشيء و الصورة تعم ما له ظل كالتمثال و ما لا ظل له.
    و الأرحام جمع رحم و هو مستقر الجنين من الإناث.
    و هذه الآية في معنى الترقي بالنسبة إلى ما سبقها من الآيتين، فإن محصل الآيتين: أن الله تعالى يعذب الذين كفروا بآياته لأنه العزيز المنتقم العالم بالسر و العلانية فلا يغلب في أمره بل هو الغالب و محصل هذه الآية أن الأمر أعظم من ذلك، و من يكفر بآياته و يخالف عن أمره أذل و أوضع من أن يكفر باستقلال من نفسه و اعتماد على قدرته من غير أن يأذن الله في ذلك فيغلب هو على أمره تعالى، و يبطل النظام الأحسن الذي نظم الله سبحانه عليه الخلقة فتظهر إرادته على إرادة ربه بل الله سبحانه هو أذن له في ذلك، بمعنى أنه نظم الأمور نوع نظم يؤدي إلى وجود الاختيار في الإنسان، و هو الوصف الذي يمكنه به ركوب صراط الإيمان و الطاعة أو التزام طريق الكفر و المعصية، ليتم بذلك أمر الفتنة و الامتحان، فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر، و ما يشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين.
    فما من كفر و لا إيمان و لا غيرهما إلا عن تقدير، و هو نظم الأشياء على نحو يتيسر لكل شيء ما يتوجه إليه من مقاصده التي سوف يستوفيها بعمله بتصويره بصورته الخاصة التي تمهد له السلوك إلى ما يسلك إليه.
    فالله سبحانه هو الغالب على أمره القاهر في إرادته المهيمن على خلقه، يظن الإنسان أنه يفعل ما يشاء و يتصرف فيما يريد، و يقطع بذلك النظم المتصل الذي نظمه الله في الكون فيسبق التقدير، و هذا بعينه من القدر.
    و هذا هو المراد بقوله: يصوركم في الأرحام كيف يشاء، أي ينظم أجزاء وجودكم في بدء الأمر على نحو يؤدي إلى ما يشاؤه في ختمه مشية إذن لا مشية حتم.
    و إنما خص الكلام بالتقدير الجاري في الإنسان و لم يذكر التقدير العام الجاري في العالم كله لينطبق على المورد، و لما مر أن في الآيات تعريضا للنصارى في قولهم في المسيح (عليه السلام) و الآيات منتهية إلى ما هو الحق من أمره، فإن النصارى لا ينكرون كينونته (عليه السلام) في الرحم و أنه لم يكون نفسه.
    و التعميم بعد التخصيص في الخطاب أعني قوله: يصوركم بعد قوله: نزل عليك، للدلالة على أن إيمان المؤمنين أيضا ككفر الكافرين غير خارج عن حكم القدر، فتطيب نفوسهم بالرحمة و الموهبة الإلهية في حق أنفسهم، و يتسلوا بما سمعوه من أمر القدر و من أمر الانتقام فيما يعظم عليهم من كفر الكافرين.

    قوله تعالى: لا إله إلا هو العزيز الحكيم، فيه عود إلى ما بدىء به الكلام في الآيات من التوحيد، و هو بمنزلة تلخيص الدليل للتأكيد.
    فإن هذه الأمور المذكورة أعني هداية الخلق بعد إيجادهم، و إنزال الكتاب و الفرقان، و إتقان التدبير بتعذيب الكافرين أمور لا بد أن تستند إلى إله يدبرها و إذ لا إله إلا الله تعالى شأنه فهو الذي يهدي الناس و هو الذي ينزل الكتاب و الفرقان، و هو يعذب الكافرين بآياته، و إنما يفعل ما يفعل من الهداية و الإنزال و الانتقام و التقدير بعزته و حكمته.
    بحث روائي
    في المجمع، عن الكلبي و محمد بن إسحاق و الربيع بن أنس: نزلت أوائل السورة إلى نيف و ثمانين آية في وفد نجران، و كانوا ستين راكبا، قدموا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم، و في الأربعة عشر ثلاثة نفر يئول إليهم أمرهم: العاقب أمير القوم و صاحب مشورتهم الذي لا يصدرون إلا عن رأيه، و اسمه عبد المسيح و السيد ثمالهم و صاحب رحلهم، و اسمه الأيهم، و أبو حارثة بن علقمة أسقفهم و حبرهم و إمامهم و صاحب مدارسهم، و كان قد شرف فيهم و درس كتبهم، و كانت ملوك الروم قد شرفوه و مولوه و بنوا له الكنائس لعلمه و اجتهاده، فقدموا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة و دخلوا مسجده حين صلى العصر، عليهم ثياب الحبرات: جبب و أردية في جمال رجال بلحرث بن كعب، يقول بعض من رآهم من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما رأينا وفدا مثلهم، و قد حانت صلاتهم، فأقبلوا يضربون بالناقوس، و قاموا فصلوا في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقالت الصحابة: يا رسول الله هذا في مسجدك؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): دعوهم، فصلوا إلى المشرق، فكلم السيد و العاقب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال لهما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أسلما، قالا: قد أسلمنا قبلك. قال: كذبتما يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله ولدا و عبادتكما الصليب و أكلكما الخنزير. قالا إن لم يكن ولدا لله فمن أبوه؟ و خاصموه جميعا في عيسى، فقال لهما النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أ لستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا و يشبه أباه؟ قالوا: بلى، قال: أ لستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت و أن عيسى يأتيه الفناء؟ قالوا: بلى، قال: أ لستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شيء و يحفظه و يرزقه؟ قالوا: بلى، قال: فهل يملك عيسى من ذلك شيئا؟ قالوا: لا، قال: أ لستم تعلمون أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض و لا في السماء؟ قالوا: بلى، قال: فهل يعلم عيسى من ذلك إلا ما علم؟ قالوا: لا، قال: فإن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء، و ربنا لا يأكل و لا يشرب و لا يحدث قالوا: بلى، قال: أ لستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها ثم غذي كما يغذى الصبي ثم كان يطعم و يشرب و يحدث؟ قالوا: بلى، قال فكيف يكون هذا كما زعمتم؟ فسكتوا فأنزل الله فيهم صدر سورة آل عمران إلى بضع و ثمانين آية.
    أقول: و روى هذا المعنى السيوطي في الدر المنثور، عن أبي إسحاق و ابن جرير و ابن المنذر عن محمد بن جعفر بن الزبير و عن ابن إسحاق عن محمد بن سهل بن أبي أمامة، أما القصة فسيجيء نقلها، و أما نزول أول السورة في ذلك فكأنه اجتهاد منهم و قد تقدم: أن ظاهر سياقها نزولها دفعة.
    عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): الشقي من شقي في بطن أمه، و السعيد من سعد في بطن أمه.
    التعديل الأخير تم بواسطة Ahmad Misk ; 25 - 4 - 2009 الساعة 06:03 PM سبب آخر: الموقع المنقول منه شيعي حذف الجزء الخاطئ

  7. افتراضي

    { حـمۤ } * { وَٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ } * { إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ } * { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } * { أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَآ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } * { رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ }


    قد تقدم بياننا في معنى قوله: { حم* والكِتابِ المُبِينِ }. وقوله: { إنَّا أنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكةٍ } أقسم جلّ ثناؤه بهذا الكتاب، أنه أنزله في ليلة مباركة.

    واختلف أهل التأويل في تلك الليلة، أيّ ليلة من ليالي السنة هي؟ فقال بعضهم: هي ليلة القدر. ذكر من قال ذلك:

    حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة { إنَّا أنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُباركَةٍ }: ليلة القدر، ونزلت صحف إبراهيم في أوّل ليلة من رمضان، ونزلت التوراة لستّ ليال مضت من رمضان، ونزل الزَّبور لستّ عشرة مضت من رمضان، ونزل الإنجيل لثمان عشرة مضت من رمضان، ونزل الفُرقان لأربع وعشرين مضت من رمضان.

    حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: { فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ } قال: هي ليلة القدر.

    حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله عزّ وجل: { إنَّا أنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إنَّا كُنَّا مُنْذِرِيْنَ } قال: تلك الليلة ليلة القدر، أنزل الله هذا القرآن من أمّ الكتاب في ليلة القدر، ثم أنزله على الأنبياء في الليالي والأيام، وفي غير ليلة القدر.

    وقال آخرون: بل هي ليلة النصف من شعبان.

    والصواب من القول في ذلك قول من قال: عنى بها ليلة القدر، لأن الله جلّ ثناؤه أخبر أن ذلك كذلك لقوله تعالى: { إنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ } خَلْقنا بهذا الكتاب الذي أنزلناه في الليلة المباركة عقوبتنا أن تحلّ بمن كفر منهم، فلم ينب إلى توحيدنا، وإفراد الألوهية لنا.

    وقوله: { فِيها يُفْرَق كُلُّ أمْرٍ حَكِيم } اختلف أهل التأويل في هذه الليلة التي يُفرق فيها كلّ أمر حكيم، نحو اختلافهم في الليلة المباركة، وذلك أن الهاء التي في قوله: { فِيها } عائدة على الليلة المباركة، فقال بعضهم: هي ليلة القدر، يُقْضَى فيها أمر السنة كلها من يموت، ومن يولد، ومن يعزّ، ومن يذل، وسائر أمور السنة. ذكر من قال ذلك:

    حدثنا مجاهد بن موسى، قال: ثنا يزيد، قال: أخبرنا ربيعة بن كلثوم، قال: كنت عند الحسن، فقال له رجل: يا أبا سعيد، ليلة القدر في كلّ رمضان؟ قال: إي والله، إنها لفي كلّ رمضان، وإنها الليلة التي يُفرق فيها كل أمر حكيم، فيها يقضي الله كلّ أجل وأمل ورزق إلى مثلها.

    حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا ربيعة بن كلثوم، قال: قال رجل للحسن وأنا أسمع: أرأيت ليلة القدر، أفي كل رمضان هي؟ قال: نعم والله الذي لا إله إلاَّ هو، إنها لفي كل رمضان، وإنها الليلة التي يُفرق فيها كل أمر حكيم، يقضي الله كلّ أجل وخلق ورزق إلى مثلها.

  8. افتراضي

    تفسير سورة البقرة الآيات 67_73 قصة بقرة بني إسرائيل
    تفسير سورة البقرة الآيات 67_73 قصة بقرة بني إسرائيل

    --------------------------------------------------------------------------------

    ورد ذكر القصة في سورة البقرة الآيات 67-73.

    قال الله تعالى وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ))
    القصة:

    مكث موسى في قومه يدعوهم إلى الله. ويبدو أن نفوسهم كانت ملتوية بشكل لا تخطئه عين الملاحظة، وتبدو لجاجتهم وعنادهم فيما يعرف بقصة البقرة. فإن الموضوع لم يكن يقتضي كل هذه المفاوضات بينهم وبين موسى، كما أنه لم يكن يستوجب كل هذا التعنت. وأصل قصة البقرة أن قتيلا ثريا وجد يوما في بني إسرائيل، واختصم أهله ولم يعرفوا قاتله، وحين أعياهم الأمر لجئوا لموسى ليلجأ لربه. ولجأ موسى لربه فأمره أن يأمر قومه أن يذبحوا بقرة. وكان المفروض هنا أن يذبح القوم أول بقرة تصادفهم. غير أنهم بدءوا مفاوضتهم باللجاجة. اتهموا موسى بأنه يسخر منهم ويتخذهم هزوا، واستعاذ موسى بالله أن يكون من الجاهلين ويسخر منهم. أفهمهم أن حل القضية يكمن في ذبح بقرة.

    إن الأمر هنا أمر معجزة، لا علاقة لها بالمألوف في الحياة، أو المعتاد بين الناس. ليست هناك علاقة بين ذبح البقرة ومعرفة القاتل في الجريمة الغامضة التي وقعت، لكن متى كانت الأسباب المنطقية هي التي تحكم حياة بني إسرائيل؟ إن المعجزات الخارقة هي القانون السائد في حياتهم، وليس استمرارها في حادث البقرة أمرا يوحي بالعجب أو يثير الدهشة.

    لكن بني إسرائيل هم بنو إسرائيل. مجرد التعامل معهم عنت. تستوي في ذلك الأمور الدنيوية المعتادة، وشؤون العقيدة المهمة. لا بد أن يعاني من يتصدى لأمر من أمور بني إسرائيل. وهكذا يعاني موسى من إيذائهم له واتهامه بالسخرية منهم، ثم ينبئهم أنه جاد فيما يحدثهم به، ويعاود أمره أن يذبحوا بقرة، وتعود الطبيعة المراوغة لبني إسرائيل إلى الظهور، تعود اللجاجة والالتواء، فيتساءلون: أهي بقرة عادية كما عهدنا من هذا الجنس من الحيوان؟ أم أنها خلق تفرد بمزية، فليدع موسى ربه ليبين ما هي. ويدعو موسى ربه فيزداد التشديد عليهم، وتحدد البقرة أكثر من ذي قبل، بأنها بقرة وسط. ليست بقرة مسنة، وليست بقرة فتية. بقرة متوسطة.

    إلى هنا كان ينبغي أن ينتهي الأمر، غير أن المفاوضات لم تزل مستمرة، ومراوغة بني إسرائيل لم تزل هي التي تحكم مائدة المفاوضات. ما هو لون البقرة؟ لماذا يدعو موسى ربه ليسأله عن لون هذا البقرة؟ لا يراعون مقتضيات الأدب والوقار اللازمين في حق الله تعالى وحق نبيه الكريم، وكيف أنهم ينبغي أن يخجلوا من تكليف موسى بهذا الاتصال المتكرر حول موضوع بسيط لا يستحق كل هذه اللجاجة والمراوغة. ويسأل موسى ربه ثم يحدثهم عن لون البقرة المطلوبة. فيقول أنها بقرة صفراء، فاقع لونها تسر الناظرين.

    وهكذا حددت البقرة بأنها صفراء، ورغم وضوح الأمر، فقد عادوا إلى اللجاجة والمراوغة. فشدد الله عليهم كما شددوا على نبيه وآذوه. عادوا يسألون موسى أن يدعو الله ليبين ما هي، فإن البقر تشابه عليهم، وحدثهم موسى عن بقرة ليست معدة لحرث ولا لسقي، سلمت من العيوب، صفراء لا شية فيها، بمعنى خالصة الصفرة. انتهت بهم اللجاجة إلى التشديد. وبدءوا بحثهم عن بقرة بهذه الصفات الخاصة. أخيرا وجدوها عند يتيم فاشتروها وذبحوها.

    وأمسك موسى جزء من البقرة (وقيل لسانها) وضرب به القتيل فنهض من موته. سأله موسى عن قاتله فحدثهم عنه (وقيل أشار إلى القاتل فقط من غير أن يتحدث) ثم عاد إلى الموت. وشاهد بنو إسرائيل معجزة إحياء الموتى أمام أعينهم، استمعوا بآذانهم إلى اسم القاتل. انكشف غموض القضية التي حيرتهم زمنا طال بسبب لجاجتهم وتعنتهم.

    نود أن نستلفت انتباه القارئ إلى سوء أدب القوم مع نبيهم وربهم، ولعل السياق القرآني يورد ذلك عن طريق تكرارهم لكلمة "ربك" التي يخاطبون بها موسى. وكان الأولى بهم أن يقولوا لموسى، تأدبا، لو كان لا بد أن يقولوا: (ادْعُ لَنَا رَبَّكَ) ادع لنا ربنا. أما أن يقولوا له: فكأنهم يقصرون ربوبية الله تعالى على موسى. ويخرجون أنفسهم من شرف العبودية لله. انظر إلى الآيات كيف توحي بهذا كله. ثم تأمل سخرية السياق منهم لمجرد إيراده لقولهم: (الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ) بعد أن أرهقوا نبيهم ذهابا وجيئة بينهم وبين الله عز وجل، بعد أن أرهقوا نبيهم بسؤاله عن صفة البقرة ولونها وسنها وعلاماتها المميزة، بعد تعنتهم وتشديد الله عليهم، يقولون لنبيهم حين جاءهم بما يندر وجوده ويندر العثور عليه في البقر عادة.

    ساعتها قالوا له: "الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ". كأنه كان يلعب قبلها معهم، ولم يكن ما جاء هو الحق من أول كلمة لآخر كلمة. ثم انظر إلى ظلال السياق وما تشي به من ظلمهم: (فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ) ألا توحي لك ظلال الآيات بتعنتهم وتسويفهم ومماراتهم ولجاجتهم في الحق؟ هذه اللوحة الرائعة تشي بموقف بني إسرائيل على موائد المفاوضات. هي صورتهم على مائدة المفاوضات مع نبيهم الكريم موسى.



    كل شي بالقرآن الكريم،،،،،،، يا عرب كفاكم مفاوضات ألا تتفكرون وتتعظون


  9. افتراضي

    جزاكى الله الجنه

 

 
صفحة 2 من 5 الأولىالأولى 12345 الأخيرةالأخيرة

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 31 - 12 - 2008, 05:57 AM

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • مش هتقدر تضيف مواضيع جديده
  • مش هتقدر ترد على المواضيع
  • مش هتقدر ترفع ملفات
  • مش هتقدر تعدل مشاركاتك
  •  
جميع الحقوق محفوظة لمنتديات مصراوي كافيه 2010 ©