صحوت ُ من نومي القصير و أنا أشعر بدوار شديد و رجفة في أطرافي... و إجهاد و ضعف عام في عضلاتي... لم استطع التحرك عن موضعي في السرير... لابد أن السبب هو الجوع فأنا لم آكل شيئا منذ ليلة شجاري مع الشقراء... و بالرغم من أن وليد نصحني بالطعام البارحة إلا أنني لم أكن أشعر بأي شهية له
هذا إضافة إلى تأثير السهر و الأرق... اللذين لم يبرحاني مذ حينها...
كلّما حاولتُ الحركة ازداد الدوار... و تسارعتْ خفقات قلبي ... و صعُبَ تنفسي...إنه ذات الشعور الذي داهمني يوم فرارنا حفاة من المدينة الصناعية... و تشردنا جياعا عطشى في البر...
أمن أحد ليساعدني؟ أريد بعض الماء ... أريد قطعة خبز... أكاد أفقد وعيي...!
أغمضتُ عيني و تنفستُ بعمق و حبستُ الهواء بصدري كي أمنع عصارة معدتي من الخروج... و زفرتُ أنّة طويلة تمنيتُ أن تصل إلى مسامع وليد... لكن الجدار الفاصل بيننا بالتأكيد امتص أنيني...
بعد قليل سمعتُ طرقا على الباب... معقول أنه وليد قد سمعني؟ الحمد لله...!
استجمعتُ بقايا قوتي و قلتُ مباشرة:
" ادخل "
لم أكن ارتدي غير ملابس النوم و لكن أي قوة أملك حتى أنهض و أضع حجابي؟؟ لففتُ لحافي حولي عشوائيا و كررتُ:
" ادخل "
انفتح الباب ببطء و حذر...
قلتُ بسرعة مؤكدة :
" تفضل "
بسرعة... أنقذني...
و أنا انظر نحو الباب... بلهفة...
أتدرون من ظهر؟
إنها أروى...
فوجئتُ بها هي تدخل الغرفة...
قالتْ و هي تقفُ قرب الباب :
" أريد أن أتحدّث معك "
أغمضتُ عيني... إشارة إلى أنني لا أريدها... إلى أنني متعبة... إلى أنني لم أكن أنتظرها هي... و لم أكن لأطلب العون منها...
قالتْ :
" هو سؤال واحد أجيبيه و سأخرج من غرفتك "
قلتُ و أنا أزفر بتعب :
" أخرجي "
لكن أروى لم تخرج... فتحتُ عيني ّ فوجدتها تقتربُ منّي أكثر... أردتُ أن أنهض فغلبني الدوار... أشحتُ بوجهي بعيدا عنها... لا أريد أن أراها و لا أريد أن تراني بهذه الحالة...
أروى قالتْ :
" فقط أجيبيني عن هذا السؤال يا رغد... يجب أن تجيبيني عليه الآن... "
لم أتجاوب معها
حلّي عني يا أروى ! ألا يكفي ما أنا فيه الآن ؟؟ إنني إن استدرتُ إليك فسأتقيأ على وجهك الجميل هذا...
" رغد "
نادتني
فأجبتُ بحنق :
" ماذا تريدين منّي ؟ "
قالتْ :
" أخبريني... أتعرفين... لماذا ... قتل وليد عمّار ؟؟ "
انتفض جسمي كلّه فجأة... و الخفقات التي كانت تهرول في قلبي صارتْ تركض بسرعة... بأقصى سرعة...
التفت ُ إلى أروى... أو ربما الغرفة هي التي دارتْ و جعلتْ وجهها مقابل وجهي... لست ُ أكيدة...
حملقتْ أروى بي ثم قالتْ :
" تعرفين السبب... أليس كذلك ؟ أنا واثقة..."
هززتُ رأسي نفيا... أريد محو السؤال و محو صورتها و محو الذكريات التي كسرتْ الباب و اقتحمتْ مخيّلتي فجأة ... هذه اللحظة...
قالت أروى:
" بل تعرفين... تصرفاتك و انفعالك يؤكد ذلك يا رغد... أنا واثقة من هذا... لا أعرف لم أنتما مصران على إخفاء الأمر عنّي... لكن... "
هتفتُ :
" كفى..."
أروى قالتْ بإصرار :
" للأمر... علاقة بك ِ أنت ِ... أليس كذلك ؟؟ "
صرخت ُ و أنا أحاول صم أذني ّ عن سماع المزيد... و إعماء عيني عن رؤية شريط الماضي...
" يكفي "
لكن أروى تابعتْ :
" أخبريني يا رغد... يجب أن تخبريني... لماذا قتل وليد عمّار... و ما علاقتكِ أنتِ بهذا ... لماذا صرخت ِ حين رأيت ِ صورته معلقة على جدار المكتب؟؟ و لماذا تنعتانه أنتما الاثنان بالحقير؟؟ ماذا فعل؟؟ ما الذي ارتكبه و جعل وليد... يقتله انتقاما؟؟ أنت ِ تعرفين الحقيقة... أليس كذلك؟؟ من حقي أن أعرف... أخبريني ... "
" كفى... كفى ... كفى ... "
صرختُ و أنا أضغط بيدي كلتيهما بقوة على صدغي ّ محاولة منع الذكرى المريرة الملغومة من الانفجار في رأسي...
آنذاك... ظهر لي وجه عمار في الصورة... نعم... لقد رأيتُه يقترب منّي... رأيتُ يديه تمتدان نحوي... قفزت ُ عن سريري مفزوعة... صرختُ ... رأيت ُ الجدران تتصدع إثر صراخي... رأيتُ السقف ينهار... و الأرض تهتز ... أحسست ُ بعيني تدور ... و الغرفة تدور... و شعرت ُ بيد ٍ ما تمتد ُ نحوي... تحاول الإمساك بي...
إنها... يد عمّار !
" لا... لا... لاااااااااااااا "
على هذه الصرخات انتفضتُ و رميتُ بفرشاة أسناني جانبا و خرجتُ من الحمام مسرعا مبتلعا بقايا المعجون دفعة واحدة و مطلقا ساقي ّ للريح... نحو غرفة رغد...
كان الباب مفتوحا و الصراخ ينطلق عبره... مفزِعا...
اقتحمتُ الغرفة فورا و رأيتُ رغد واقفة عند سريرها ممسكة برأسها بكلتا يديها و تصرخ مذعورة ... فيما أروى واقفة مذهولة إلى جوارها معلقة يديها في الهواء...
" رغد ؟؟ "
هرولتُ باتجاهها مفزوعا طائر العقل ... و رأيتُ يديها تبتعدان فجأة عن رأسها و تمتدان نحوي... و في ثوانٍ... تخطو إلي ّ... و تهوي على صدري... و تطبق علي ّ...
تعثر قلبي الراكض و انزلق أرضا بعنف... جراء الموقف...
كنتُ مذهولا ... لا أعرف و لا أدرك ما يحصل من حولي...
" رغد ؟؟ "
صرخت ُ فزعا... و أنا ألتقطها بين ذراعي فجأة و أضمها إلي ّ و أشعر بصراخها يخترق أضلاع قفصي الصدري...
" بسم الله الرحمن الرحيم... ماذا حصل رغد ...؟ "
حاولت ُ إبعاد رأسها كي أنظر إلى عينيها لكنها غاصتْ بداخلي بعمق ... بقوة و هي تصرخ:
" أبعده عني... أبعده عنـّـي ... أبعده عنـّـي "
ألقيتُ نظرة خاطفة على أروى فرأيتها مجفلة فزعة محملقة بعينيها...
صرختُ :
" ماذا حصل ؟ "
لم تقو َ على الكلام...
صرختُ ثانية :
" ماذا حصل ؟؟ يا أروى؟؟ "
تأتأتْ أروى :
" لا... أدري... "
أبعدتُ رأس رغد عن صدري فلم تقاوم... نظرتُ إلى عينيها أريد أن أسألها عمّا حصل... فإذا بهما تحملقان في الفراغ... و إذا بذراعيها تهويان فجأة على جانبيها... و إذا بها تنزلق من بين يدي...
بسرعة أمسكتُ بها و أنا أصرخ:
" رغد... رغد "
رفعتُها إلى السرير و جعلتُ أخاطبها و أهزها ... لكن عينيها كانتا تبحلقان في اللاشيء... و فجأة دارتا للأعلى و انسدل جفناها من فوقهما...
" رغد... رغد... ما بك ... رغد أجيبيني "
لكنها لم تجب...
صرختُ بانفعال :
" أجيبيني يا رغد... رغد...أرجوكِ... "
و أنا أهزها بعنف محاولا إيقاظها... لكنها... بدت فجأة كالميتة....
تزلزل قلبي تحت قدمي مرتاعا و صرختُ مذهولا:
" يا إلهي... ماتت ْ صغيرتي ماتت ْ ..."
و أنا مستمر في هزّها بعنف دون جدوى...
التفتُ إلى أروى و صرختُ بقوة:
" طبيب... إسعاف... ماء ... افعلي شيئا... احضري شيئا ... تحركي بسرعة "
و أروى واقفة كالتمثال ... متجمدة في فزع ..
صرختُ :
" هيا بسرعة "
تحركتْ أروى باعتباط ... يمينا يسارا حتى إذا ما لمحتْ قارورة الماء تلك على المكتب... أسرعتْ إليها و جلبتها لي
رششتُ الماء على وجه رغد ... بل إنني أغرقتُه و أنا لا أزال أهزها و أضرب خديها بقوة... حتى ورّمتهما....
رغد فتحتْ عينيها فناديتها مرارا لكنها لم تكن تنظر إليّ أو حتى تسمعني... بدتْ و كأنها تسبح في عالم آخر...
" رغد... أتسمعينني؟؟ ردي عليّ... ردي عليّ يا رغد أرجوك... "
و لم تتجاوب معي...
بسرعة قربتُ من فمها قارورة الماء و طلبتُ منها أن تفتحه و تشرب...
رغد لم تحرك شفتيها... بل عادتْ و أغمضتْ عينيها... لكنها لا تزال تتنفس... و لا يزال الشريان ينبض في عنقها بعنف...
أبعدت ُ القارورة و رحت ُ أحرك رأسها يمينا و شمالا بقوة ... محاولا إيقاظها...
و التفتُ إلى أروى آمرا :
" أحضري بعض السكّر "
وقد تفجرتْ فكرة هبوط السكر في بالي فجأة...
أروى حدّقت بي ببلاهة... غير مستوعبة لشيء فهتفتُ:
" السكر يا أروى... بسرعة "
وانطلقتْ أخيرا خارج الغرفة و عادتْ بعد ثوان تحمل علبة السكّر...
كانتْ رغد لا تزال شبه غائبة عن الوعي على ذراعي...
تناولتُ علبة السكر بسرعة و سكبتُ كمية منه داخل القارورة و رججتها بعنف... ثم قرّبتها من رغد مجددا :
" رغد... أتسمعينني؟؟ افتحي فمك..."
لكنها فتحتْ عينيها و نظرتْ إليّ...
رأس رغد كان على ذراعي اليسرى و القارورة في يدي اليمنى... ألصقتُها بشفتيها و قلتُ:
" هيا يا رغد...افتحي فمك "
لم تع ِ رغد كلامي...
رفعت ُ رأسها و فتحت ُ فمها بنفسي... و دلقت ُ شيئا من الشراب فيه...
" اشربي...."
عينا رغد أوشكتا على الإغماض... فهززتها بقوة :
" أوه لا... لا تنامي الآن... أفيقي... اشربي هيا... "
و رفعت ُ رأسها للأعلى أكثر...
حينها وصل الشراب إلى بلعومها فسعلتْ... و ارتد الشراب إلى الخارج...
فتحتْ رغد عينيها و بدا و كأنها استردتْ شيئا من وعيها إثر ذلك...
قربت ُ القارورة من فمها مجددا و قلتُ:
" أتسمعينني يا رغد ؟؟ اشربي... أرجوك..."
سكبتُ كمية أخرى في فمها فابتلعتها رغد فجأة... ثم فجأة رأيتُ المزيج يخرج من فمها و أنفها... و ينسكب مبللا وجهها و ملابسها...
" أوه يا رغد.... كلا... كلا...."
ضممتُها إلى صدري بهلع ... بفزع... بعشوائية... و بانهيار...
كانت طرية كالورقة المبللة...
غمست ُ يدي في علبة السكّر و أخذتُ حفنة منه... و رفعتُها نحو فمها المفغور و نثرتُها فيه... مبعثرا الذرات على وجهها المبلل و على عنقها و ملابسها و في كل مكان من شدّة اضطرابي...
" ابلعيه... أرجوك... أرجوك يا رغد... "
عدتُ و أخذتُ كمية أخرى و حشوتُ فمها بها... و أغلقتُه بيدي... و هي مستسلمة لا تقاوم... و لا تظهر على قسمات وجهها أية تعبيرات...
كأنها تمثال من الورق الذابل...
كانت... كالميتة على ذراعي...
عدتُ أخاطبها فخرج صوتي مبحوحا ممزقا... و كأن حفنة السكر تلك قد انحشرتْ في حنجرتي أنا... و أعطبتْ حبالي الصوتية...
" ابلعيه يا رغد... أرجوك... يجب أن تبلعيه... يا إلهي ماذا جرى لصغيرتي ؟؟ "
أبعدتُ رأس رغد عنّي قليلا... فرأيتُ عينيها نصف مفتوحتين تحملقان في اللاشيء ... و فمها مفتوح تنساب من زاويتيه قطرات اللعاب ممزوجة بحبيبات السكر....
و شيئا فشيئا بدأتْ تحرّك عينيها و فمها و تستعيد وعيها...
" رغد ... "
صحت ُ بلهفة... و أنا أرى عينيها تدوران في الغرفة و من ثم تنظران إلي ّ
" رغد... رغد... هل تسمعينني ؟؟ "
رغد تنظر إلي... إذن فهي تراني... و تسمعني...
فمها أراه يتحرك و يبتلع السكر...
بسرعة تناولت ُ قارورة المزيج تلك و ألصقتُها بفمها مباشرة و قلتُ :
" اشربي ... أرجوك... أرجوك... "
شربتْ رغد جرعة ... و ابتلعتْها... تلتها جرعة أخرى...
أبعدت ُ القارورة و أعدتُ رجها بقوة... ثم قربتُها من شفتيها و طلبتُ منها أن تشرب المزيد...
" اشربي... قليلا بعد يا رغد... هيا ... "
حتى أرغمتُها على شرب المزيج كاملا... و قد تجاوبتْ منقادة و نصف واعية على ذراعي...
و هي على ذراعي... استردّتْ وعيها تدريجيا...
و هي على ذراعي... كانتْ تتنفس بقوة... و اضطراب... و ترتعش كعصفور يحتضر...
و هي على ذراعي... انحدرتْ من عيني دمعة كبيرة... بحجم السنين التي فرقتْ فيما بيننا...
و هي على ذراعي... و أنا ممسك بها بكل قوتي و كل ضعفي... مخافة أن تنزلق من بين يدي... مخافة من أن يبعدها القدر عني... مخافة من أن أفقدها هذه المرة... للأبد...
لقد كانت شبه ميتة بين يدي...
رغد الحبيبة... طفلتي الغالية... منبع عواطفي و مصبها... شبه ميتة... على ذراعي ؟؟
" هل تسمعينني يا رغد ؟ أتسمعينني ؟ "
سألتُها عندما رأيتُها تحدّق بي... بدتْ و كأنها مشوشة و غير قادرة على التركيز... أخذتْ تدور بعينيها على ما حولها... توقفتْ برهة تحملق في أروى... و أخيرا عادتْ إلي...
" أخبريني... هل أنتِ بخير؟؟ أتسمعينني؟؟ أتستطيعين التحدّث؟ ردي عليّ يا رغد أرجوك... "
" وليد... "
أخيرا نطقتْ...
قلتُ بلهفة :
" نعم رغد... أأنت ِ بخير؟؟ كيف تشعرين؟ "
رغد أغمضتْ عينيها بقوة... كأنها تعتصر ألما... ثم غمرتْ وجهها في صدري... و شعرتُ بأنفاسها الدافئة تتخلخل ملابسي... كما أحسستُ بالبلل يمتصه قميصي... من وجهها...
حركتُ يدي نحو كتفها و ربتُ بخفة:
" رغد...؟؟ "
تجاوبتْ رغد معي... أحسستُ بهمسها يصطدم بصدري... لم أميّز ما قالتْ أولا... لكنها حين كررتْ الجملة استطاعتْ أذناي التقاطها ...
" أبعده عنّي... "
توقفتُ برهةً أفتشُ عن تفسيرٍ لما سمعتُ... سألتُها بحيرة و عدم استيعاب :
" أُبعِدُهُ عنكِ ؟؟ "
كررتْ رغد... و هي تغمرُ وجهها أكثر في ثنايا قميصي :
" أَبعدهُ عنّي ... "
قلتُ مستغربا :
" من ؟؟ "
سرتْ رعشة في جسد رغد انتقلتْ إليّ ... نظرتُ إلى يدها الممدودة جانبا فرأيتُها ترتجفُ... و رأيتُها تتحرك نحوي و تتشبثْ بي... كانتْ باردة كالثلج... و أيضا أحسستُ برأسها ينغمسُ في داخلي أكثر فأكثر... ثم سمعتُها تقول بصوتٍ مرتجف واهن:
" عمّار "
آن ذاك... جفلتُ و تصلبتْ عضلاتي فجأة... و تفجرتْ الدهشة كقنبلة على وجهي...
حركتُ يدي إلى رأسها و أدرتُه إليّ... لأرى عينيها... فتحتْ هي عينيها و نظرتْ إليّ...
قلتُ :
" من ؟؟ "
فردّتْ :
" عمار... أبعده عنّي... أرجوك "
اختنق صوتي في حنجرتي بينما ارتجّتْ الأفكار في رأسي...
قلتُ :
" عمــ....مار ؟؟ لكن... "
و لم أقوَ على التتمة...
ماذا جرى لصغيرتي ؟ ما الذي تهذي به ؟؟
قالتْ :
" أبعده... أرجوك "
ازدردتُ ريقي بفزع و أنا أقول :
" أين... هو ؟ "
رغد حركتْ عينيها و نظرتْ نحو أروى... ثم هزتْ رأسها و أغمضتْ عينيها و عادتْ و غمرتْ وجهها في صدري و هي تصيح :
" أبعده عني... أبعده عنّي... وليد أرجوك..."
آنذاك... شعرتُ بأن خلايا جسمي كلها انفصمتْ عن بعضها البعض و تبعثرتْ على أقطار الأرض... و فشلتُ في جمعها...
البقايا المتبقية لي من قوة استخدمتُها في الطبطبة على رغد و أنا أردد :
" بسم الله عليكِ... اهدئي يا رغد... ماذا حل بكِ؟ ...هل رأيتِ كابوسا ؟؟ "
رغد كررتْ مجددا و هذه المرة و هي تبكي و تشدّ ُ الضغط عليّ متوسلة:
" أبعده يا وليد... أرجوك... لا تتركني وحدي... لا تذهب..."
" أنا هنا يا رغد... بسم الله عليكِ... يا إلهي ماذا حصل لكِ ؟ هل تعين ما تقولين؟ "
أبعدتْ رغد رأسها قليلا و وجهتْ نظرها إلى أروى و صاحتْ مجددا:
" أبعده أرجوك... أرجوك... أنا خائفة... "
جُن ّ جنوني و أنا أرى الصغيرة بهذه الحالة المهولة ترتجف ذعرا بين يدي ...
هتفتُ بوجه أروى :
" ماذا فعلت ِ بالصغيرة يا أروى ؟ "
أروى واقفة مدهَشة متجمدة في مكانها تنظر إلينا بارتباك و هلع...
صرخت ُ :
" ماذا فعلت ِ يا أروى تكلّمي ؟ "
ردتْ أروى باضطراب:
" أنا ؟؟ لا شيء... لم أفعل شيئا "
قلت ُ آمرا بصرامة :
" انصرفي الآن ... "
حملقتْ أروى بي مذهولة فكررت ُ بغضب :
" انصرفي هيا ... "
حينها خرجتْ أروى من الغرفة... و بقينا أنا و رغد منفردين... يمتص كل منا طاقته من الآخر...
كانت الصغيرة لا تزال تئن مراعة في حضني... حاولتُ أن أبعدها عنّي قليلا إلا أنها قاومتني و تشبثتْ بي أكثر...
لم استطع فعل شيء حيال ذلك... و تركتُها كما هي...
هدأتْ نوبة البكاء و الروع أخيرا... بعدها رفعتْ رغد رأسها إلي و تعانقتْ نظراتنا طويلا...
سألتُها :
" أأنت ِ بخير ؟ "
فأومأتْ إيجابا...
" كيف تشعرين ؟ "
" برد ... "
قالتْ ذلك و الرعشة تسري في جسمها النحيل...
جعلتُها تضطجع على الوسادة و غطيتها باللحاف و البطانية... و درتُ ببصري من حولي فوجدتُ أحد أوشحتها معلقا بالجوار فجلبتُه...
و أنا ألفّه حول وجهها انتبهتُ لحبيبات السكر المبعثرة على وجهها و شعرها... و ببساطة رحتُ أنفضها بأصابعي...
كان وجهها متورما محمرا من كثرة ما ضربته! أرى آثار أصابعي مطبوعة عليه !...
آه كم بدا ذلك مؤلما... لقد شقّ في قلبي أخدودا عميقا...
أنا آسف يا صغيرتي...سامحيني...
لففتُ الوشاح على رأسها بإحكام مانعا أي ٍ من خصلات شعرها القصير الحريري من التسلل عبر طرفه...
" ستشعرين بالدفء الآن... "
سحبت ُ الكرسي إلى جوار السرير و جلستُ قرب رغد أراقبها...
إنها بخير... أليس كذلك؟
هاهي تتنفس... و هاهما عيناها تجولان في الغرفة... و هاهو رأسها يتحرك و ينغمر أكثر و أكثر في الوسادة...
لابد أنه هبوط السكّر... فقد مرتْ رغد بحالة مشابهة من قبل... لكنها لم تكن تهذي آنذاك...
هل كان كابوسا أفزعها؟؟
هل قالتْ لها أروى شيئا أثار ذعرها؟؟
ماذا حصل؟؟
لابد أن أعرف...
انتظرتُ حتى استرددتُ أنفاسي المخطوفة... و استرجعتُ شيئا من قواي الخائرة... و ازدردت ُ ريقي الجاف إلا عن طعم المعجون الذي لا يزال عالقا به... و استوعبتُ الموقف، ثم خاطبتُ رغد :
" رغد "
التفتتْ رغد إلي ّ فسألتُها:
" ماذا... حصل ؟ "
كنتُ أريد الاطمئنان على وعيها و إدراكها... و معرفة تفسير ما حدث...
رغد نظرتْ إلي ّ نظرة بائسة... ثم قالتْ و صوتها هامس خفيف:
" شعرت ُ بالدوخة منذ استيقاظي... و عندما وقفت ُ أظلمتْ الصورة في عيني ّ و فقدت ُ توازني... "
ثم أضافتْ :
" لم آكل شيئا... أظن أنه السبب "
ثم تنهّدتْ باسترخاء...
قلتُ :
" أهذا كل شيء؟"
قالت :
" نعم "
" و أنتِ الآن... بخير ؟؟ "
أجابتْ :
" نعم... بخير "
تنهدتُ شبه مطمئنا و قلتُ :
" الحمد لله..."
و أضفتُ :
" لقد أفزعتني..."
نظرتْ هي إليّ ثم غضّت بصرها اعتذارا...
قلتُ :
" الحمد لله... المهم أنكِ بخير الآن "
عقبتْ :
" الحمد لله "
سكتُ قليلا و الطمأنينة تنمو في داخلي، ثم استرسلتُ :
" إذن... لم تأكلي شيئا البارحة.. أليس كذلك ؟ "
و لم أرَ على وجهها علامات الإنكار...
قلت ُ معاتبا و لكن بلطف: