***
أخبرتني مرح أنها ستأتي مع والدها لزيارتي عصر هذا اليوم.
مرح هي صديقتي وزميلتي في الجامعة, وهي ابنة السيد أسامة المنذر... مساعد وليد الأول في العمل... وشقيق المحامي يونس المنذر الرجل الذي أتى إلى مزرعة الشقراء يخبرها عن إرث عمها قبل شهور... والذي يعمل كذلك مع وليد...
ومرح رسامة بارعة... وهي شقيقة وتلميذة لأحد الفنانين الأساتذة المعروفين والذائعي الصيت على مستوى البلد...
كنت بطبيعة الحال لا أزال محبوسة على السرير الأبيض منذ يومين, معتمدة على الممرضات والسيدة ليندا في كل شيء.
كانت أعصابي منهارة تماما في اليومين السابقين... ولكنني اليوم أفضل بكثير والحمدلله.
إنها فترة الزيارة... وليد يقضيها كلها إلى جانبي... بينما تعود السيدة ليندا فيها إلى البيت...
وليد ذهب إلى عمله هذا الصباح وأتى إلي مباشرة بعد العمل... وها هو يجلس بقربي ويطالع إحدى الجرائد وعلى وجهه اهتمام ملحوظ...
يبدو أنه يقرأ أخبارا مزعجة,وأظنها عن الحرب... فهو مهووس بمتابعة تطوراتها وما يحدث في البلد أولا بأول...
على المنضدة المجاورة كان وليد قد وضع باقة رائعة من الورود الخلابة التي تبهج النفوس...
وعلبة كبيرة من الشوكولا الفاخرة التي وزع شيئا من محتواها على الأطباء والممرضات الذين يرعونني...
وألاحظ أن الرعاية في هذه المستشفى دقيقة جدا! الأطباء والممرضات يأتون لتفقدي بتكرار... حتى في أوقات الزيارة!
ها هو وليد يتثاءب من جديد! بين الفنية وأختها أراه يتثاءب أو يفرك عينيه... لاشك أنه لم ينم جيدا... وربما هو متعب ويريد أن يقيل... لكنه لم يعد للبيت بل أتى ليبقى معي... هذا يشعرني بالذنب!
إنه حنون جدا... أغدق علي عطفه وعاملني بمنتهى اللطف والاهتمام ورحابة الصدر في أزمتي هذه... حتى أنه... يساعدني في تناول الطعام!
بين لحظة وأخرى... أجر نظراتي وأحبسها بعيدا عنه, فتغافلني وتسلل خلسة إليه... مخترقة أسوار اللياقة والخجل!
إنهيتدي زي العمل... بذلة زرقاء اللون... أنيقة جدا... أراها للمرة الأولى... وقد صفف شعره بمستحضر يظهر الشعر وكأنه مبلل وتدلت خصلة طويلة لحد ما على جبينه العريض... فوق أنفه المعقوف مباشرة!
أرجو أن يكون منهمكا في القراءة وألا يلاحظ نظراتي الحمقاء!
طرق الباب...
"لا بد أنها مرح".
قلت وأنا أنظر إلى الباب ثم إلى وليد, فوضع وليد الصحيفة جانبا وقام إلى الباب وفتحه وخرج...
وسمعت صوت رجل يحييه... ثم رأيت صديقتي مرح تطل من الباب, وتحمل باقة مذهلة من الزهور البديعة...
أخذتني بالأحضان وأمطرتني بالقبل وكلمات المواساة والتشجيع... ولا أخفي عليكم أنها رفعت من معنوياتي بقر كبير...
وبدأت بعد ذلك تتحدث وبشكل مستمر...
نسيت أن أخبركم أن مرح ثرثارة ومرحة جدا كاسمها...
حلوة المعشر وطيبة القلب... تحب الحياة وتنفق على متعتها بسخاء! إنها موهوبة في الرسم مثلي وأخوتها الرسامون يقيمون معارض فنية دورية... وقد أخبرتني بأن معرضهم التالي عما قريب وأنها ستشارك فيه ودعتني أيضا للمشاركة...
الفكرة أبهرتني...! مرح فتاة رائعة... وأفكارها رائعة أيضا...
وجود مرح معي في الجامعة في الواقع أبهج حياتي كثيرا... وساعدني على تطوير علاقاتي بالزميلات... وزيارتها هذه لي فجرت ينبوعا من الأمل والتفاؤل في صدري وأزاحت جزءا كثيرا من حزني وكآبتي... الحمدلله
فيما نحن نتجاذب أطراف الحديث حول المعرض الفني المرتقب طرق الباب ثم فتح ببطء وسمعت صوت وليد يتنحنح مستأذنا الدخول...
قلت:
"تفضل وليد".
ولما أذنت له بالدخول دخل وقال:
" المعذره... سآخذ هذه".
وتوجه نحو الصحيفة التي كان يطالعها قبل قليل فأخذها ثم قال موجها الكلام إلي وعيناه مركزتان على الصحيفة:
"أبو عارف يبلغك السلام ويحمد الله على سلامتك يا رغد".
قلت:
"سلمه الله. اشكره نيابة عني".
وهم وليد بالمغادره فقلت:
"وعلى الورد كذلك وليد"
قال:
"بالطبع".
ثم غادر...
كنت لا أزال أنظر إلى الباب حين سمعت مرح تقول:
"أوه! أهذا السيد وليد شاكر؟؟!!"
تعجبت والتفت إليها فوجدت الدهشه تعلو وجهها فسألت مستغربة:
"نعم,ولكن كيف تعرفينه؟"
ابتسمت مرح وقالت وهي لاتزال ترفع حاجبيها من الدهشة:
"الجميع يتحدث عنه! والدي وعمي وأخوتي! كلهم يتحدثون عنه! هذا هو إذن!!"
سألتها متعجبة:
"يتحدثون عنه؟"
ردت:
"نعم! كمدير لمصنع البناء! السيد وليد شاكر قال, والسيد وليد شاكر فعل, والسيد وليد شاكر ذهب, والسيد وليد شاكر عاد!! هذا هو السيد وليد شاكر!!"
وكان التعجب طاغ على تعبيرات وجهها!
قلت:
" ولم أنت مستغربه هكذا؟؟"
مرح أطلقت ضحكة خفيفة وقالت:
"لم أتوقعه أبدا شابا صغيرا! أوه إنه في مقتبل العمر ! أهلي دائما يصفونه بالسيد النبيل! يقولون أنه ذكي وجدي ومهذب, ومهاب... ولايضحك أبدا! تخيلته رجلا صارما منغلقا في منتصف العمر أو حتى بعمر والدي!"
ثم أشارت إلي وأضافت:
"وأنت أخبرتني أنه أبوك بالوصاية! حسبته أكبر بكثير !"
قلت وأنا ابتسم عفويا:
"إنه يكبرني بنحو 10 سنين فقط!"
قالت والضحك يمتزج بكلامها:
"وكيف تنادينه في البيت؟ أبي؟؟ أو ابن عمي؟ أو السيد وليد شاكر؟؟"
ضحكت بخفة لتعليق مرح... وعلقت:
"وليد فقط! كما اعتدت أن أناديهمنذ الطفولة... لقد ربيت معه في بيت واحد... بعد فقد والدي... وكثيرا ما كنا نلعب سويا... وقد كنت أعتبره مثل أمي وأنا صغيره! والآن صار مثل أبي!"
ويا للأيام...!
سرحت برهة لألقي نظرة استرجاعية على الماضي البعيد... حيث ككنت طفلة صغيرة غضة... عَنى لها وليد الدنيا بأسرها!
وحقيقة لا يزال!
انتبهت على صوت مرح تتابع حديثها وقد لمعت نظرة ماكرة في عينيها:
"أب شاب... ثري وقوي وذكي... ومهذب... و..."
وهنا طرق البااب ثانية... وسمعت وليد ينادي باسمي فأذنت له بالدخول...
"أرجو المعذرة... الحلوى للزوار".
قال وهو يسير نحو المنضدة المجاور لسريري حيث علبة الشوكولا...
قلت:
"ولصديقتي أيضا من فضلك".
إذ إنه يشق علي تحريكها من موضعي, خصوصا مع إصابة يمناي.
فحمل وليد العلبة واقترب منا ومدها إلى مرح:
"تفضلي أنستي".
مرح أخذت تقلب عينيهابين أنواع الشوكولا في حيرة أيها تختار! وأخيرا اختارت
إحدى القطع وهي تقول:
"شكرا... سننتظر حلوى خروجك من المستشفى بالسلامة يا رغد".
ابتسمت, أما وليد فعقب:
"قريبا عاجلا بحول الله... الحلوى والعشاء أيضا".
واستأذن وانصرف حاملا العلبة إلى والد مرح...
هذه المرة كانت أعيننا نحن الاثنتان تنظر إلى الباب, ثم إلى بعضها البعض في الوقت ذاته.
ثم إذا بي اسمع مرح تقول:
"إنه عطر (عمق المحيط) الرجالي!"
نظرت إليها باستغراب وقلت:
"عفوا!؟"
ابتسمت وقالت:
"أهديت زجاجة مماثلة لشقيقي عارف قبل أيام! شذى قوي وراق... وباهظ الثمن!"
يا لـهذه الــــ مرح!
عقدت حاجبي وضيقت عيني ونظرت إليها باستنكار... ثم قلت:
"ماذا كنا نقول؟"
قبل أن يقطع حديثنا وليد.
أجابت مرح:
"شاب... ثري... وقوي... وذكي... وراق..."
وتوقفت برهة ثم برقت عيناها وأضافت:
"وجذاب!"
أوه يا إلهي!
وقبل أن أنطق بأي تعليق طرق الباب مجددا والتفت رأسانا بسرعة نحوه... لكن الطارق هذه المرة كان السية أم فادي... زوجة السيد سيف صديق وليد المقرب...