في سنة 1956 وفي أتون التغييرات السياسية العالمية التي تلت الحرب العالمية الثانية، من بزوغ قوى، وأفول آخري، أقدم الرئيس المصري علي خطوة اعتبرها كثير من المراقبين حينها متسرعة وغير مدروسة، وهي تأميم قناة السويس، والتي كان يهدف من ورائها ترسيخ مكانته كرئيس غير منتخب شعبياً، ولا منتدب دستورياً، إنما جاء بانقلاب علي الرئيس السابق محمد نجيب، بل كانت هذه الخطوة رد فعل مباشر وفردي من جمال عبد الناصر على تصريحات وزير خارجية أمريكا وقتها [دالاس] والذي قال فيها:
أن الاقتصاد المصري منهار، كانت هذه الخطوة سبباً مباشراً لما يعرف بالعدوان الثلاثي علي مصر، والذي أدي لتدمير مدن القنال بالكامل [ بورسعيد والقناة والسويس و الإسماعيلية] وتهجير عشرات الآلاف من أهلها، وتدمير سلاح الطيران المصري بالكامل تقريباً، وذلك خلال أسبوع واحد فقط، بعدها تم وقف إطلاق النار بضغط من الرئيس الأمريكي [ إيزنهاور]، ومع ذلك لم تنسحب إنجلترا وفرنسا إلا بعد شهرين، وانسحبت إسرائيل بعد خمسة شهور، وحل محلهم قوة دولية في شرم الشيخ, وذلك لتتمكن إسرائيل من الملاحة في خليج العقبة،بكل حرية إلى البحر الأحمر فالعالم الخارجي .

ومع ذلك كله فقد سمى جمال عبد الناصر يوم انسحاب إنجلترا بيوم عيد النصر، وبدأت الأناشيد والأغاني الوطنية تتغني وتشيد بهذا النصر الموهوم، حتى من كثرة الحديث عن النصر صدق الناس أن هذا نصراً مبيناً .

هذه الحادثة العجيبة من تاريخ الأمة الحديث والقريب، نضعها بين أيدي هؤلاء الموتورين والمنكودين الذين غاظهم بشدة، وفت أكبادهم ما جرى لولية الإنعام عليهم ـ إسرائيل ـ والتي تعرضت لهزيمة تاريخية مذلة على أرض غزة، فراحت أقلامهم تتبارى في تشويه الحقائق، وطمس الإنجازات التي شهد بها العدو نفسه قبل الصديق، وتقطر سماً زعافاً، استمدوه من سواد قلوبهم المظلمة بالحقد والكره لكل ما هو إسلامي، وبجولة سريعة علي بعض الصحف العربية التي تصدر في بلاد بعينها والتي هي بالمناسبة مدرجة علي لائحة الموالاة أعني الاعتدال الأمريكية، نجد الكثير من المقالات التي تتحدث عن معركة غزة بكل حقد وكراهية، يسخرون فيها ممن يصفها بالنصر، ويعددون أوجه الهزيمة ويتباكون فيها علي أهل غزة الذين سقط من الآلاف بين شهيد وجريح، وعشرات الآلاف من المشردين، ويصبون جم غضبهم ولعناتهم على حماس ورجال المقاومة الشرفاء الأحرار الذين أبوا الخضوع لإسرائيل، والرضا بالهوان، وكأنا بهذه الكتيبة المأجورة والتي فضحت أسماءهم دائرة الإعلام في وزارة الخارجية الإسرائيلية هذا الأسبوع عندما أصدرت لائحة بأسماء الكتاب العرب الذين يمثلون وجهة النظر الإسرائيلية في الصراع مع المقاومة الفلسطينية، والتي توصي في بيانها المدرج على موقع الوزارة علي شبكة المعلومات بمتابعة مقالاتهم !
كأنا بهذه الكتيبة تتفنن في تجميل وجه إسرائيل القبيح، وتحويل هزيمتها التاريخية إلي نصر حاسم، هؤلاء الكتاب تماما من عينة الكتاب في حقبة الخمسينات الذين تغنوا بهزيمة 56 حتى حولوها إلى عيد للنصر مازال يحتفل به حتى الأن .

وهذه الكتيبة المأجورة أقلامهم، المؤلفة جيوبهم، لن نحدثها عن معاني الإنتصار في الإسلام، ولن نسوق لهم دلالاته التاريخية من سيرة المصطفي عليه وعلي آله وصبحه السلام، ولن نكلمهم بالقرآن والسنة، لأنهم قد لا يفهمون مثل تلك المعاني كلها، بل لا يقيمون لها وزناً، ودائما ما يتهمون الأحرار من أبناء الأمة بأنهم لا يعرفون إلا الجانب الديني في الصراع، ويجهلون دروب السياسة وأصول الحكم وإستراتيجة التعامل مع الأعداء، والتفاوض مع المخالف، إلى آخر قائمة الاتهامات الممجوجة والتي يحرصوا دائما على سردها عند كل نازلة، لن نكلمهم من هذه الزاوية قط، بل ننزلهم منزلة اختاروها لأنفسهم طوعاً أو كرهاً، وهي منزلة من لم يعترف بالبعد الديني في الصراع، فنقول لهم أين هذه الهزيمة التي تولولون عليها ليل نهار ؟

إسرائيل ذهبت إلي غزة وعلى أجندتها عدة أهداف، سنعرضها ونرى هل تحققت أم لا:

1ـ إستعادة الجندي الأسير شاليط وخصصت من أجل ذلك وحدة مدربة في جيشها مزودة بأحدث الأجهزة للتعقب والبحث، فعادت من دونه وحتى من دون أن تلتقط أدنى خيط يقود إليه .

2ـ وقف صواريخ المقاومة التي دائما ما يصفها الجبناء والعملاء بأنها عبثية, فلم تتوقف يوماً واحداً طوال أسابيع الحرب الثلاثة عن بث الرعب والفزع في الكيان الصهيوني الغاصب، بل زاد مداها حتى وصل لستين كيلو متر مربع، وذلك رغم القصف الجوي المهول [ مليون كجم متفجرات] على أرض غزة الصغيرة .

3ـ إنهاء المقاومة الإسلامية، والقضاء على حركة حماس، وهو الهدف المعلن من الحرب، فزادت الحرب من شعبية حماس، واتسع تأثيرها ونفوذها في المنطقة, حتى أصبحت طرفاً فاعلاً، ولاعباً مهماً على الساحة، لا يمكن إغضاؤه أو تجاهله، حتى من قبل إسرائيل نفسها، حتى أجبرت هي وشركاؤها على الدخول في مفاوضات مباشرة معها .

4ـ إعادة إحتلال غزة إن لزم الأمر لإنهاء المقاومة ووقوف صواريخها، فلم تستطع فرقة جولاني التي يتباهي اليهود بقدراتها وإمكاناتها الكبيرة أن تتقدم مترأً واحداً داخل المناطق الكثيفة داخل قطاع غزة، وفقدت العديد من قادتها وجنودها في القتال مع المقاومة .

5ـ تصفية قادة حماس وكوادرها لكسر ظهر الحركة، فلم تستطع سوى تصفية قائدين أحدهما استشهد وهو نزار ريان، والآخر أغتيل غدراً وخيانة بواسطة أحد الخونة وهو سعيد صيام، وذلك من جملة 500 قائد سياسي وميداني، وذلك على الرغم من جيش العملاء والخونة الرابض في جحوره بالقطاع وخارجه، استعداداً لمثل هذه الظروف، والذي سبق وأن قدم في هذا الباب خدمات جليلة للكيان الصهيوني .

6ـ كسب الرأي العالمي والتعاطف الخارجي لما يسميه الصهاينة محنة مواطنيها مع صواريخ المقاومة، فانقلب السحر على الساحر، وكشفت المشاهد المروعة لضحايا المجازر الصهيونية في القطاع عن مدى وحشية الصهاينة وعنصريتهم واستخفافهم بالنفس البشرية، وتجردهم من أدني معاني الإنسانية، حتى أن الهيئات الدولية والمعروفة بانحيازها الدائم للصهاينة أو السكوت على جرائمهم، أدانت جريمة الإبادة التي حدثت بالقطاع، ووصفتها بالبربرية والوحشية والنازية .

7ـ إعادة الثقة للجيش الإسرائيلي عقب هزيمة يوليو 2006، ورفع معنويات الجندي الإسرائيلي، فإذا بها تزداد إنهياراً، وتتلطخ سمعة الجيش الذي لا يقهر بحفاضات جنوده البواسل، وذلك على الرغم من أن الحرب كانت مع رجال مقاومة وليس جيشاً نظامياً، إمكانياتهم محدودة للغاية، مما أدي لرفع معنويات المدافعين لأعلى المستويات .

8ـ تسليم القطاع لحفنة المسترزقين بالقضية في رام الله من شيعة عباس المنتهية ولايته، وعملاء دايتون، وخونة التيار الإنقلابي من أتباع فأر غزة المذعور، ومجرمي الأمن الوقائي، فأدي الأمر لإنكشاف أمرهم إلي العالم بأسره، وافتضاح عمالتهم وخيانتهم للأمة، فرأينا محمود عباس يرفض تقديم طلب للمحكمة الدولية لمجرمي الحرب لإدانة القادة اليهود، ويرفض حضور قمة الدوحة، ويقمع المظاهرات المؤيدة لغزة في الضفة، ويعتقل المئات من المقاومين هناك لمنعهم من التوجه لنصرة إخوانهم، فعرف الناس قاطبة من هؤلاء وسقطت عنهم آخر ورقة توت كانت تواري سواءتهم، مما أدي لتوحد الرأي العام ضدهم، وها هي الدول المانحة لإعادة إعمار غزة تعلن عن فقدان هذه الحفنة للمصداقية و الأهلية و النزاهة، فلم تعطها شيئاً من المساعدات خشية ضياعها.

أضف لذلك تكلفة الحرب على غزة والتي كبدت الكيان الصهيوني الغاصب عشرة ونصف مليار دولار، وهي ما يوازي ما تم إنفاقه علي الحملات الدعائية طيلة أربعين سنة لتجميل الوجه القبيح للكيان الصهيوني الغاصب .

أما ما يقال عن حجم الدمار الشامل للبنية التحتية للقطاع والعدد الكبير للضحايا والذي تتخذه الكتيبة المأجورة حجة لتبرير الهزيمة، فهذا سؤال في الأصل يواجه به العدو الصهيوني البادئ بالحصار والقتال، ولا يوجه للمدافع عن بلده ودينه وأهله، وأنه من النذالة والخسة بمكان أن تلام الضحية ويمدح الجاني، ثم نقول لهم أيضا من شواهد التاريخ الحديث أن الجيش الألماني في الحرب العالمية الثانية وقف علي أبواب مدينة ستالجراد الروسية وضربها بكل قوته، ودمر المدينة بالكلية وقتل فيها زيادة عن مائتي ألف من أهلها والمدافعين عنها، ثم تركها قاعاً صفصفاً، وفشل في مواصلة تقدمه بالآراضي الروسية، و كان ذلك بداية الإنهيار للجيش الألماني، فهل قال أحد من كتاب الروس أو غيرهم أن ألمانيا قد انتصرت على ستالجراد، أو أن الروس هزموا.

إن العالم بأسره والصهاينة أنفسهم قد اعترفوا بأنهم قد فشلوا في غزة ولكن مازالت بعض الأقلام المسمومة تجادل في هذا الفشل وتصف جهاد الأبطال من أهل غزة بأنه هزيمة ليست واحدة ولا اثنان بل ثلاث هزائم، فماذا علينا إذا لم يفهم..... والبقية معروفة