أحد الأمة الأربعة
عالم من علماء الدين
قاضي الشريعة
لم يكن قاضيا في مصر قط، فإن أهل مصر يسمونه "قاضي الشريعة" .. ومازال العديد من أصحاب الحاجات الذين لم ينالوا حظا من التعليم يتجهون إلى ضريحه في الحي المعروف باسمه في القاهرة، فيقدمون الظلامات، ويسألون الله تعالى أن يقضي لهم حاجاتهم، ويرد عنهم الظلم، متوسلين بالإمام قاضي الشريعة.
وقد شاع بين أهل مصر أن الإمام هو قاضي الشريعة، منذ قدم إلى مصر عام 199 هـ، وهو يخطو إلى الخمسين، رجلا طويلا ممشوق القامة، فارسا، أسمر كأبناء النيل، بشوشا ضاحك الوجه، مهذب اللحية، يصبغ لحيته وشعره بالحناء اتباعا للسنة، عذب الحديث، رخيم الصوت، يشع البريق من عينيه بصفاء الود لمن يراه، على الرغم مما يثقل جفنيه من أثار السهر، وطول التأمل وإعمال الفكر، وكثرة التجول بروحه وجسده بحثا عن حقائق الشريعة!!.. في ثياب خشنة نظيفة، متكئا على عصا غليظة، كأنه حاج ورع أو جواب آفاق..!
وفي الحق أن المصريين لم يخطئوا في إطلاق اسم قاضي الشريعة عليه .
فما كاد يطأ أرض مصر حتى بحث عن قبر الإمام الليث بن سعد فوقف عليه مستعبرا .. ثم بحث عن آراء الليث وفقهه. فوجد المتعصبين من أعداء الليث وحساده، قد أخفوا كل كتبه تحت التراب أو أحرقوها..! وظل يبحث عن كتاب "مسائل الفقه" الذي كتبه الليث بيده، وكتاب التاريخ. وكتابه في التفسير والحديث، وكتبه عن منابع النيل. وتاريخ مصر قبل الإسلام، بما حوت من أساطير وروايات تصور تاريخ الفكر المصري ومقومات شخصية أهل مصر .. فلم يعثرالأمام على شيء من ذلك كله إلا بعض مسائل وآراء واجتهادات حفظها بعض تلاميذ الإمام الليث، وكان الأمام قد لقي أحدهم في المدينة، وأحدهم في اليمن فتلقى عنهما بعض فقه الليث ..
فـــقـــهـــه
لقد نشأ الإمام في وقت ظهر للفقه فيه مدرستان استقلّت كلّ واحدة منها عن الأخرى، وكان أغلب فقهاء عصره ينضمّون تحت لواء هاتين المدرستين ويسيرون بسيرها ولا يخالفون منهجها إلا بالشيء القليل وكانت إحداهما بالعراق وعرفت بمدرسة الرأي وتزعّمها محمد بن الحسن وأبو يوسف واشتهر عن أصحاب هذه المدرسة سعة الاستنباط والنظر وكثرة الجدل وكان يعيبهم قلة الأحاديث والآثار والمدرسة الثانية مدرسة أهل الحديث وعلى رأسهم الإمام مالك، وكانوا حافظين لأخبار النبيّ وأحاديثه، إلا أنّهم كانوا عاجزين عن النظر والجدل وكلّما ورد عليهم سؤال من أهل الرأي أشكل عليهم واحتاروا...
وكان الإمام رحمه اللـه في بداية أمره على مذهب أهل المدينة مصاحباً للإمام مالك رحمه اللـه، فلمّا توفّي الإمام مالك جاب الأمصار وأخذ الفقه وعلومه من بقية علماء الأقطار كأصحاب الليث والأوزاعي رحمهما اللـه، ثمّ دخل بغداد عام 148هـ وجالس محمد بن الحسن وقرأ عليه كتبه واستفاد من أسلوبه ومدرسته وناظر أهل منهجه وبقي في بغداد ما يقارب التسع سنين يمحّص المنهجين ويقارن بين المدرستين، وما إن غادرها حتّى كان قد كوّن فكراً جديداً واتّجاهاً حديثاً ولما عاد إلى مكّة بدأ بوضع المنهج الجديد لمدرسته، خاصّة وأنّ رحلاته تلك قد جمعت لديه عدداً لا يُستهان به من الأحاديث والآراء الفقهية المختلفة، فعمل على ترجيح تلك الأحاديث من حيث السند والناسخ والمنسوخ، ثم يستنبط المُحْكَم منها ويدرّسه بجانب أحكام القرآن وأدلّته، وعندها بدأت شخصية الشافعي وفقهه بالظهور خاصّة وأنّ منهجه الفقهي المميز لم يكن يشابه أهل الحجاز أو أهل العراق، بل كوّن مدرسته الخاصة به والتي ضمّت خلاصة علمه بالكتاب محكمه ومتشابهه والسنة وخفاياها والعربية وأسرارها وأخبار الناس وأحوالها وأمور الرأي والقياس وأقسامه، وما إن عاد إلى بغداد عام 195هـ حتّى كان قد أسّس طريقة في الفقه لا تقتصر على الفروع أو مسائل جزئيّة يفتي بها، بل بفقه كامل كعلم مستقل قائم بذاته له أصول وضوابط وقواعد عامّة، فاجتمع عليه التلاميذ وانهال عليه الفقهاء... وإذا كان الإمام أبي حنيفة وأصحابه أوّل من دوّن الفقه ورتّب أبوابه وأصله، فإنّ الإمام الشافعي يعتبر أوّل من وضع الأسس العلمية لأصول الفقه ورتّب أبوابه وميّز بعض أقسامه عن بعض. يقول ابن خلدون في مقدّمته: وكان أوّل من كتب في علم أصول الفقه الشافعي ، أملى فيه رسالته المشهورة تكلّم فيها في الأوامر والنواهي والبيان والخبر والنسخ وحكم العلة المنصوصة من القياس... ومصادر فقه الشافعي كما يروي يونس عنه قال الشافعي: الأصل قرآن أو سنّة، فإن لم يكن فقياس عليهما، وإذا صح الحديث فهو سنة، والإجماع أكبر من الحديث المنفرد، والحديث على ظاهره، وإذا احتمل الحديث معاني فما أشبه ظاهره وليس المنقطع بشيء ما عدا منقطع بن المسيب»، وقد بيّن رحمه اللـه الإجماع وفضله وقسّم القياس إلى أقسام عدّة، كقياس المعنى والشبه وغير ذلك، وشرح مراتبه في الضعف والقوّة.
مــؤلّــفــاتــه وكــتــبــه
أهمّها كتاب الحجة وهو مذهبه القديم وفيه الردّ على آراء أهل الرأي،
وكتاب الرسالة،
اختلاف الحديث،
جماع العلم،
أحكام القرآن،
إبطال الاستحسان،
بياض الفرض،
صفة الأمر والنهي،
اختلاف العراقيين،
اختلاف مالك والشافعي،
اختلاف مع محمد بن الحسن،
كتاب علي وعبداللـه،
فضائل قريش،
المبسوط،
كتاب السنن،
كتاب الأمّ وهو أشهرها،
وكذلك مسنده الذي أسند عليه الرازي كثيرا