وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى
أحيانا يمضي الإنسانُ سنوات طويلةً في الدراسة في بلد أجنبي ، ولا دخل له ، ووالده فقير ، فيشتغل هذا الطالب في مطعم ، أو يشتغل حارسا ، ويدرس في النهار ، وضعه المنظور مؤلم جداً ، لكن هذا مستقبله مشرق جداً ، حينما ينال الشهادة ، ويعود إلى بلده ، ويعيّن بمنصب رفيع ، وله دخل وفير ، وله مكانة اجتماعية ، ينسى كل التعب الذي أصابه ، فلذلك :
﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ﴾ .
( سورة الضحى ) .
أحيانا يقول الطبيب للمريض : تحمّل الآلام ، إن شاء الله هناك شفاء مع الآلام .
الإنسان بين يدي ربه مستسلم
﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ﴾
هذه الآية لرسول الله عليه الصلاة والسلام ، ولكنها تنسحب على كل مؤمن بقدر إيمانه واستقامته وإخلاصه
﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ﴾ .
الآن : عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ :
(( آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً ، فَقَالَ لَهَا : مَا شَأْنُكِ ؟ قَالَتْ : أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا ، فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا ، فَقَالَ : كُلْ ، قَالَ : فَإِنِّي صَائِمٌ ، قَالَ : مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ ، قَالَ : فَأَكَلَ ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ ، قَالَ : نَمْ ، فَنَامَ ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ ، فَقَالَ : نَمْ ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ ، قَالَ سَلْمَانُ : قُمْ الْآنَ فَصَلَّيَا ، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ : إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : صَدَقَ سَلْمَانُ )) .
6 – أَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ
أنت تتلقى من الله العطاء ، لكن ينبغي أن تتخلق بهذا الكمال الإلهي ، أن تعطي ، لذلك كان عليه الصلاة والسلام يعطي عطاء من لا يخشى الفقر ، المؤمن كريم ، والكرم أحد أساسيات إيمانه ، لأنه أيقن أن الدنيا ممر للآخرة ، وأن ثمن الآخرة العمل الصالح ، وأن حجمك عند الله بحجم عملك الصالح ، فبقدر تضحياتك ترقى عند الله .
والله أنا ألتقي مع بعض الأشخاص يرسل من ماله الشيء الوفير للحق ، للدعوة ، لنشر الحق ، لإطعام الفقراء والمساكين ، والله أقول له كلمة : أنت تعمل بذكاء وبعقل ، لأنك آمنت بالآخرة ، وتعمل الآن لها .
((فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ )) .
" إن لله عملاً بالليل لا يقبله في النهار ، وإن لله عملاً بالنهار لا يقبله في الليل " .
الله عز وجل يحاسبك على زوجتك ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ :
(( دَخَلَتْ عَلَيَّ خُوَيْلَةُ بِنْتُ حَكِيمِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ الْأَوْقَصِ السُّلَمِيَّةُ ، وَكَانَتْ عِنْدَ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ ، قَالَتْ : فَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَذَاذَةَ هَيْئَتِهَا ، فَقَالَ لِي : يَا عَائِشَةُ ، مَا أَبَذَّ هَيْئَةَ خُوَيْلَةَ ! قَالَتْ : فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، امْرَأَةٌ لَا زَوْجَ لَهَا ، يَصُومُ النَّهَارَ ، وَيَقُومُ اللَّيْلَ ، فَهِيَ كَمَنْ لَا زَوْجَ لَهَا ، فَتَرَكَتْ نَفْسَهَا ، وَأَضَاعَتْهَا ، قَالَتْ : فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ فَجَاءَهُ ، فَقَالَ : يَا عُثْمَانُ ، أَرَغْبَةً عَنْ سُنَّتِي ؟ قَالَ : فَقَالَ : لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَلَكِنْ سُنَّتَكَ أَطْلُبُ ، قَالَ : فَإِنِّي أَنَامُ وَأُصَلِّي ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ ، وَأَنْكِحُ النِّسَاءَ ، فَاتَّقِ اللَّهَ يَا عُثْمَانُ ، فَإِنَّ لِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَإِنَّ لِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَإِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، فَصُمْ وَأَفْطِرْ ، وَصَلِّ وَنَمْ )) .
[ أحمد ]
(( وجاءت في اليوم التالي عطرة نضرة ، فسألتها السيدة عائشة ، ما الذي حصل ؟ قالت : أصابنا ما أصاب الناس )).
[ الطبراني عن أبي موسى الأشعري ]
حقوق العباد مبنية على المشاححة ، وحقوق الله مبنية على المسامحة ، فالزوجة لها حق ، والابن له حق ، وأنت كطبيب هذا المريض له حق عندك ، يجب أن تنصحه ، وأنت كمحامٍ هذا الموكل له حق عندك ، وأنت كمدرس هذا الطالب له حق عندك .
((فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ )) .
7 – لابد أن يكون العطاء لله والمنع لله :
لكن في النهاية عندنا معنى دقيق جداً : من أحب لله ، وأبغض لله ، وأعطى لله ومنع لله ، فقد استكمل الإيمان ، المؤمن عطاءه وفق مبادئه ، يعطي لله ، ويمنع لله ، يرضى بحسب مبادئه ، يرضى ويغضب ، يرضى لله ، ويغضب لله ، يصل لله ، ويقطع لله ، ليس عنده عمل عشوائي ، وعادات وتقاليد مسيطرة عليه ، يتحرك وفق مبادئ وقيم .
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :
(( مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ ، وَأَبْغَضَ لِلَّهِ ، وَأَعْطَى لِلَّهِ ، وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ )) .
[ أبو داود ]
الله عز وجل يعطي الصحة والذكاء ، والمال والجمال والقوة للكثيرين من خَلقه ، ويعطي السكينة بقدر لأصفيائه المؤمنين ، ويعطي الحكمة بقدر ، ويعطي الرضى بقدر ، ويعطي الشعور بالفوز بقدر ، الله عنده عطاءات دنيوية ، وعطاءات أخروية ، وعطاءه غير محدود .
وإذا أعطاك من يمنعه ثم من يعطي إذا ما منعك
الخلاصة الجامعة :
والعطاء متعلق بالتوحيد ، كل هذه المعاني الأولى متعقلة باسم الله ( المعطي ) ، لكن ينبغي أن تتخلق بخلق العطاء ، النبي عليه الصلاة والسلام سأله أحد رؤساء القبائل : لمن هذا الوادي من الغنم ؟ قال له : هو لك ، قال : أتهزأ بي ؟ قال له : لا والله ، هو لك فقال : أشهد أنك رسول الله تعطي عطاء من لا يخشى الفقر ، وأنت إذا أعطيت أعطاك الله .
(( أنفق ، أنفق عليك )) .
[ متفق عليه ] .
(( أنفق يا بلال ، ولا تخشى من ذي العرش إقلالا )) .
[ أخرجه السيوطي عن بلال] .
والصدقة تقع في يد الله قبل أن تقع في يد الفقير .
(( باكروا بالصدقة ، فإن البلاء لا يتخطى الصدقة )) .
[ أخرجه البيهقي عن أنس ] .
والله عز وجل يسترضى بالصدقة ، هذه خبرة عند المؤمنين ، والله عز وجل حينما ترجو منه شيئاً ، وتتوسل لهذا الرجاء بصدقة تنفقها على نية التوفيق ، أو تحقيق ما تصبو إليه ، فالله عز وجل يسترضى .
إذاً : كما أن الله أعطاك نعمة الإيجاد ، ونعمة الإمداد ، ونعمى الهدى والرشاد ينبغي أن تبني حياتك على العطاء ، والناس كما تعلمون على اختلاف مللهم ونحلهم ، وانتماءاتهم وأعراقهم وأنسابهم وطوائفهم لا يزيدون على رجلين ؛ رجل عرف الله فانضبط بمنهجه ، وأحسن إلى خلقه ، وبنى حياته على العطاء فسعد في الدنيا والآخرة ، ورجل غفل عن الله ، وتفلت من منهجه ، وأساء إلى خلقه ، فشقي وهلك في الدنيا والآخرة ، والآية :
﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ﴾ .
( سورة الليل ) .
المكافأة الإلهية :
﴿ مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ﴾ .
﴿ وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى ﴾ .
( سورة الليل ) .
والحمد لله رب العالمين