حكام
ابرهيم باشا
,,
إبراهيم باشا، قائد الجيوش المصرية، وهو الذى أرسى فكرة القومية العربية، وأحب مصر أكثر مما أحبها أهلها، وهو الذى جعل لمصر مكانتها وكرامتها وقوتها، التى كانت مثار قلق من الأوروبيين، والباب العالى، فلم يتناول زكى فهمى أفندى سيرة القائد العظيم سوى فى ١٨ سطراً، منها ما يتضمن وصف سمته وهيأته فقال: «كان ربع القامة ممتلئ الجسم، قوى البنية، مستطيل الوجه والأنف، أشقر الشعر فى وجهه أثر الجدرى، كثير اليقظة قليل النوم، وكان نقش خاتمه (سلام على إبراهيم)»، أما عن باقى السيرة المبتسرة،
فيقول المؤلف: «ولد جنتكمان إبراهيم باشا ابن محمد على فى قوله سنة ١٧٨٩م، وعندما بلغ الثامنة عشرة عينه والده فى الجندية المصرية، وفى زمن يسير ارتقى مراتبها وتولى قيادة فرقة، فبرهن على مقدرة فائقة ثم عين مديراً فى إحدى المديريات، فقام بعبء وظيفته خير قيام، وتولى الإمارة المصرية بعد تنازل والده ١٢٦٥ هجرية، ولم يطل حكمه سوى ١١ شهراً وتوفى قبل والده».
ولكن لنبدأ سيرة الابن منطلقين من سيرة الأب، فبعد استقرار الأمر لمحمد على باشا فى مصر، أراد أن يحقق أمناً إقليمياً وكان الحجاز مصدر قلق لمصر، وتمثل هذا الخطر فى شخص محمد بن عبدالوهاب، الذى وجد فى أمين الدرعية محمد بن سعود حليفاً وضع سيفه وسلطانه لنصرة المبادئ الوهابية، فلما مات محمد بن عبدالوهاب ١٧٦٥، خلفه ابنه عبدالعزيز بن سعود، وكان أشد حماساً لنشر دعوة والده وزحف جيشه فى ١٨٠١ إلى كربلاء، وأمعنوا فى أهلها تقتيلاً، إذ اعتبروهم كفاراً وهدموا مسجد الحسن، فقتل أحد الشيعة عبدالعزيز وهو قائم يصلى فى مسجد الدرعية، فخلفه ابنه سعود، ووصلت فتوحاته إلى حدود مسقط، وشواطئ الخليج العربى، ثم فتح الحجاز ودخل مكة وامتدت دعوة الوهابيين إلى عسير واليمن، وتعطلت مراسم الحج واضطربت الدولة العثمانية،
وكادت تضيع هيبتها إثر عجزها عن تأمين موسم الحج، فلجأ سلطان تركيا إلى محمد على، والى مصر، فراح يستصرخه تارة ويهدده بالعزل تارة، وأصم محمد على أذنيه، بسبب انشغاله بتوطيد سلطانه فى مصر، لأن الأمر كان يمثل له خوض حرب بالوكالة من أجل سلطان غيره، فلم يجد العثمانيون بداً من إغراء محمد على وترغيبه بتنفيذ وعد طالما حلم به، وهو أن يجعلوا الحكم فى مصر وراثياً فى أبنائه، فشرع فى إعداد حملة، وتأمين طرق المواصلات بين مصر والحجاز، وأبحرت الحملة إلى ينبع، ولحق بها طوسون باشا، ابن محمد على، براً وتلاقى الجيشان الوهابى والمصرى وكانت المعركة بين جزر ومد،
ولاقى الجيش المصرى الأمرين ونجح أخيراً فى الاستيلاء على المدينة المنورة، وقتل من بها من الوهابيين ثم عاد إلى ينبع، وأقلع منها إلى جدة، فاستولى عليها، واستقبله الشريف غالب، الذى عاونه فى الاستيلاء على مكة، ومنها انطلق إلى طوسون إلى «الطائف» فاستولى عليها فى ٢٩ يناير ١٨١٣، غير أن الجيش المصرى هزم فى «ترنه» وانتشرت الأمراض بين جنوده، فاتخذ طوسون موقف الدفاع، وأرسل فى طلب النجدة من والده، ولم يكتف والده بإرسال النجدة، وإنما ذهب على رأس الجيش، وكان لوصوله أثر عظيم فى نفوس الجند، وبدأ الموقف العسكرى فى التحسن،
وبعد وصوله إلى الحجاز توفى سعود الكبير، قائد الوهابيين، وخلفه ابنه عبدالله الأقل منه دراية وخبرة، ولما احتاجت الحرب فى الحجاز المزيد من الجند والسلاح والمال، بعث محمد على إلى نائبه فى مصر «لاظ أوغلى»، وقرر إلغاء نظام الالتزم لتسهيل جمع المال، وأن يستبدله بنظام الملتزمين لكى تصير له الأموال مباشرة، وفى هذا العهد حقق محمد على باشا انتصاراً ساحقاً، وتابع المصريون زحفهم وعرض الأمير عبدالله بن سعود الصلح أو الهدنة.
وفى عام ١٨١٨ أرسل محمد على ابنه إبراهيم باشا على رأس جيش إلى الحجاز، فاستطاع أن ينجح فيما لم ينجح فيه أخوه، نفذ إلى صميم نجد وحاصر «الرس» و«عنيزة» و«الخبر» و«الدرعية»، مما اضطر عبدالله بن سعود إلى طلب الصلح وسلم نفسه وجىء به إلى مصر فى ١٦ نوفمبر ١٨١٨، وأحسن محمد على معاملته، وبالغ فى إكرامه وشحنه إلى أسطنبول ولم يكن السلطان العثمانى كريماً معه، وأعدمه، وتم تعيين محمد على والياً على مكة والمدينة وعين القائد إبراهيم والياً على جدة، فقرر إبراهيم تدمير الدرعية عن آخرها، حتى لا يعاود ما بقى من الوهابيين التحصن بها، وفى ١٨٢٠ وقف محمد على وقفة تحديث مهمة مع الجيش المصرى.
وبهذا الجيش خاض محمد على معركة فارقة فى القضاء على ثوار اليونان فى بلاد المورة، تحت قيادة إبراهيم باشا، على نحو أذهل الأوروبيين، وفى ١٨٢٧ اتفقت روسيا وإنجلترا وفرنسا على عدم تبعية اليونان للدولة العثمانية، وتواطأت على ضرب الأسطولين المصرى والتركى فى نفارين.
وفى ١٨٣٢ استولى إبراهيم باشا على الشام بما فيها دمشق وغزة وحيفا ويافا وحمص، محققاً انتصارات ساحقة على الجيش العثمانى بأقل الخسائر، وقابل الشعب السورى الجيش المصرى بالترحاب الشديد، وظل إبراهيم يواصل انتصاراته فانتصر على الجيش العثمانى فى باقى الشام وبيلان وقونية، وأرقت هذه الانتصارات مضجع الأوروبيين.
كان زحف إبراهيم يعنى قرب دخوله إسطنبول، وبالتالى سقوط دولة مريضة وقيام دولة فتية، تقف حجر عثرة فى سبيل المطامع الأوروبية فى المنطقة، وواصل إبراهيم زحفه فاحتل مدينة كوناهية، ولم يعد يفصله عن إسطنبول سوى خمسين فرسخاً، وأصبح سقوط إسطنبول مسألة أيام، فلم يعد أمام السلطان العثمانى سوى الاستغاثة بأعدائه الروس، الذين استجابوا وحركوا أسطولهم إلى الساحل الأوروبى لتركيا،
واضطربت فرنسا وإنجلترا لهذه الخطوة من روسيا التى تنازعهما التركة العثمانية، فضغطا على الباب العالى للاتفاق مع محمد على فيما كانتا تضغطان عليه لإيقاف زحف ابنه إبراهيم، ونجحتا فى هذا، وانتهى الأمر «باتفاقية كوناهية» فى أبريل ١٨٣٣، التى قضت بتثبيت محمد على على ولاية مصر وكريت وسوريا بكل أقسامها، وتجديد ولاية ابنه إبراهيم على جدة وإسناد إدارة الحجاز إلى عهدته، مقابل إجلاء الجيش المصرى عن بلاد الأناضول، التى يحتلها.
أصدرت هيئة البريد المصرية سنة 1948م طابعاً لتخليد ذكرى إبراهيم باشا وذلك لمرور مائة سنة على موته فى 1848م