علم الطبيعة علم تعرف به علاقات الأشياء ببعضها البعض، ولا بحث له عما وراء ذلك فلا يعرف حقيقة الأشياء أو أوائلها ومصيرها، وطالب الطبيعة أو عالمها، إنما يبحث عن الطبيعة وظواهرها بعد وجودها وتحققها لا قبل وجودها وظهور مقتضياتها كما لا بحث له عمن أوجدها ولا لماذا أوجدت فيها تلك الظواهر ولا كيف أودعت فيها تلك الخواص.
فعلم الطبيعة يعرفنا مثلاُ أن جزءاً من الأوكسجين، وجزأين من الإيدروجين، تكون ماء ولكن كيف كون هذان العنصران ماء؛ مع أن الأوكسجين عنصر محرق متي لقيه شيء قابل للالتهاب التهب، والإيدروجين عنصر لا يعيش فيه الحيوان وكذا الأزوت الداخل في تركيب الهواء بنسبة 79% فكيف كونا ماء وهواء تكون بها الحياة وأحدهما محرق والآخر مميت، وإذا سألت عالم الطبيعة أوالملحد هذا السؤال أجابك أنه عاجز عن تعليل ذلك، وإن هو إلا علم تجربة فقط فما أدت إليه التجربة العملية حعله قانوناُ من قوانينه، وإن كان لا يعرف لماذا كان ولا كيف كان فضلاً عن أن يعرف أول الأشياء وآخرها أو كنهها وحقيقتها، ولديك هذا الغذاء تعرف من أحواله أن يهضم في الفم هضماً أولاً ثم يهضم في المعدة هضماً ثانياً، وتعرف أن في المعدة عصارة تساعد علي الهضم ثم يخرج منها إلي الأمعاء الدقيقة فيهضم فيها هضماً ثالثاً ويساعد علي ذلك العصارة البنكرياسية التي أوجد لها الحكيم تلك الغدة التي تفرزها ويساعد عليها أيضاً الصفراء التي تفرزها الكبد إلي آخر ذلك ما هو معروف، ولكن كيف تمثل ذلك الغذاء عيناً وفماً ويداً ورجلاً ومخاً مدركاً الخ، أو تقول كيف تمثلت تلك الأصناف التي تأكلها من البقول والخضروات والفواكه إنساناً سميعاً بصيراً عالماً متكلماً؟ إذا قلت للملحد كيف صارت هذه الأشياء إنساناً؟ ولو حدثنا أحد بذلك ما صدقناه لولا أننا نري الأمر عياناً في كل وقت أو قلت له: كيف انقلب هذا التراب زرعاً وزيتوناً ونخلاً وأعناباً وثمرات مختلفة الأشكال والطعوم والألوان؟ لو سألته مثل هذه الأسئلة لأجابك إني لا أعرف لذلك سراً ولا أفهم له معني، ولكني أقرر لك ما أثبته المشاهدة وأوصلتني إليه التجربة أما ما وراء ذلك فليس من علمي ولا هو داخل تحت اختصاصي، ولذلك قال سبنسر الفيلسوف الإنجليزي: ليس الغرض من تعلم علم الطبيعة معرفة هذه الظواهر التي يعرفها تلامذة المدارس وإنما الغرض الأسمي أن نقف علي ذلك السر الباهر من وراء تلك الحدود التي ينتهي إليها علم الطبيعة، وقال باكون وهو أستاذ أساتذة علم الطبيعة: من يأخذ علم الطبيعة رشفاً بالشفاه كان ملحداً، ومن شربه عباً أوصله إلي الخالق.
قال العلامة توماس كارليل في الملاحدة مدعون العلم: هؤلاء يحصرون هذا الكون وما به من شتي المناظر والأشكال والأصوات والحركات العديمة العدد والنجوم والغيوم والقفار والبحار في اسم مركب من بضعة أحرف (طبيعة) فيطوون جلاله العظيم في أثناء لفظ حقير، إن للكون لروعة في القلب أي روعة وموقعاً أي موقع لو ظهر عارياً من تلك الحجب التي غطت جماله ورونقه إلي أن قال: أما ظاهر الكون فقد عرف العالم عنه شيئاً، وأما الباطن فهو سر عميق لا ينفع معه علم عالم ولا تجربة كيماوي.
ثم يقول: لا أخال أنه يجتمع الإلحاد والتفكير في هذه القوي الفعالة الذاتية المحدقة بنا والتي لا تكل ولا تني ولا تفتر ولا نعرف لها أولا ولا آخر ولا مبدأ ولا نهاية.
وقال العلامة الطبيعي الإنجليزي ميلين إدوارد: يجب أن يدهش الإنسان حينما يري أن أمام هذه المشاهدات الناطقة المتكررة رجالاً يدعون لك أن كل هذه العجائب الكونية ليست إلا نتائج المصادفة أو بعبارة أخري نتائج الخواص العامة للمادة وأثراً لتلك الطبيعة التي تكون مادة الخشب ومادة الأحجاروأن الهامات-النمل مثلاُ- بل أسمي مدركات القوة الإنسانية ليست إلا نتيجة عمل القوي الطبيعية أو الكيمائية. ثم نقول لهم بعد ذلك علي سبيل التنازل هل عدم الدليل يدل علي عدم المدلول! وهل عدم العلم بالشيء يوجب العلم بعدم الشيء؟ أما كنا نجهل الميكروبات والكهرباء ومكثنا علي ذلك ألوف السنين فهل نستنتج من عدمهما في الواقع، وكذلك الراديوم مثلاً لم يعرف إلا منذ عهد قريب فهل كان معدوماً قبل أن تستكشفه تلك السيدة التي أبرزته إلي عالم الظهور، وأي فرق إذن بينكم وبين زنوج أفريقية المتوحشين الذين ينكرون مرقم الخطاب الجوي( التلغراف واللاسلكي) مثلاً لعدم علمهم به وتصورهم إياه؟
ويقول ميلين: ونقول لهم أن الوقوف مع الحس وعدم تخطيه إنما هو شأن البهائم التي لا تعرف غير المحسوس ولا يمكنها أن ترتقي إلي ما فوقه فهذه فلسفة بهيمية لا إنسانية، ثم نقول بعد ذلك إن العلم الذي يستندون إليه كثيراً ما ينقض اليوم ما قرره بالأمسـ فقل لي بعيشك أي ثقة تبقي لهذا العلم بعد ذلك؟ وأي علم هو ذلك الذي يوجب هذا التبجح وتلك الكبرياء التي جعلتهم يحكمون علي السماوات والأرض ويخرجون علي الله ورسله.
قلت: كان لا ينبغي ألا يختلف الناس في عقيدة التوحيد لأن دلالة الأثر علي المؤثر والنظام علي المنظم والفعل المحكم علي الحكيم بدهية، بل قالوا: إن ذلك مما يدركه الحيوان فضلاً علي الإنسان فإنك إذا ضربت الحمار مثلاً التفت ليري من ضربه لأنه مركوز في فطرته أن الأثر لا يكون بلا مؤثر، والفعل لا يكون بلا فاعل، فإذا رأيت كلمة مركبة من ثلاثة أحرف لم تشك أبداً في أن كاتباً كتبها، وإن رأيت ساعة تشير إلي الأوقات أيقنت أن لها صانعاً رتب أجزاءها وأعدها لتلك الغاية، وما مثل من ينكر الخالق وهو أظهر من الشمس(لأن وجود الأثر في نظر العقول ليس أقوي ولا أجلي من وجود المؤثر) إلا كمن رأي أهرامات الجيزة أو برج إيفل بباريس فقال: إن ذلك علي فخامته وضخامته لا يحتاج إلي مهندس ولا صانع، وإذا كنت لا تسلك أن ساعة توجد بلا صانع، وأن باخرة توجد بلا مهندس، بل لا تسلم أن كلمة صغيرة توجد بلا كاتب فكيف تسلم أن هذا الكون العظيم الذي يبهر العقول ويحير الألباب قد وجد بلا موجد ونظم بلا منظم؟ وكل ما فيه من نجوم وشموس وأقمار إلي أنواع لا نقدر علي عدها، قد وجدت بلا موجد يخرجها من العدم وينوعها إلي ما لا يحصي من الأنواع.
وقد قال بعض الفلاسفة : يكفيني من الدلالة علي الله وجود الأنثى بجانب الذكر، فهل علمت الطبيعة أن النوع لا يبقي ولا يحفظ إلا بوجود المرأة فأوجدتها وغايرت بينها وبين الرجل وأعدتها لما يراد منها فخلقت لها الرحم والمهبل ومتعتها بما يجذب الرجل إليها من صفات الجمال حتي في صوتها، ومنحتها ما يحتاج إليها الطفل الصغير.
وقال الفيلسوف الكبير فولتير: من قال أن طبقات العين العجيبة تدل كل واحدة منها علي حكمة سامية قد وجدت بالمصادفة كان مصاباً بأفظع أنواع الجنون التي تلك بنوع الإنسان.
قلت: والحياة وحدها أكبر دليل علي ضلال الملاحدة، فالمواد الكونية الأساسية هي موات أو جوامد بطبعها فكيف يجتمع موات مع موات فيخرج حي؟! كما أن المادة لا يظهر عنها إلا مقضتاها أما اجتماعها في غيرها واتفاقها هي وسواها علي أن توجد أشياء مرتبة وأموراً مدبرة منظمة تشتمل علي حكم كبيرة وترمي إلي غايات بعيدة فيها لا يعقل بوجه من الوجوه، وهل يعقل أن العناصر التي تتألف منها اليد والرجل والمعدة والأمعاء والقلب والكبد والمخ أرسل بعضها إلي بعض من أجل أن تجتمع ثم توزع العمل فيؤلف بعضها قلباً وبعضها كبداً وبعضها عيناً وبعضها في المرأة رحماً ومهبلاً الخ، فإذا قلنا أن المادة تفعل مقتضاها علي حسب ما أودع فيها من الخصائص فهل يمكنها أن تنتج كائناً حياً سميعاً بصيراً؟ وهل يمكنها أن تدبر الأشياء تدبيراً حكيماً بحيث يكون في موضعه اللائق به ولغايته المقصودة منه؟ وإذا كان لها سلطان علي نفسها وظواهر من ذاتها فكيف يكون لها السلطان علي غيرها حتي تأتي معها وتنوطه بعمل خاص لغرض خاص.. إن ذلك غير معقول ولا مفهوم، فهل علمت المادة أنه لا بد لك من عين تبصر بها وأنه لابد لها من طبقات مختلفة في الشكل والتركيب وأنه لابد لها من صيانها لما فيها من مزيد الرقة واللطافة فجعلتها في حجاج العين وحاطتها بتلك العظام الصلبة وهذا الغطاء الذي يشتمل علي الجفن والهدب وعلي ذلك الحاجب الأعلي إلي آخر ما لا يمكننا شرحه ولا خوض فيه، وماذا يكون الحال لو كانت هذه العين في الرجل أو تحت الإبط مثلاً؟ ثم هل علمت الطبيعة ثم نقول هل علمت الطبيعه انه لابد لك من اكل وشرب فصنعت لك الفم وجعلت فيه الاسنان والاضراس مشكله باشكال مختلفه لحكم جليله ثم جعلت له غطاء من الشفتين والاشداق ثم علمت ان الغذاء لا يمكن بلعه إلا بسائل تسيغه به فخلقت له الريق وركبته من تلك العناصر التي تفيد في هضم الطعام، ثم جعلت له منفذين؛ منفذ للنفس ومنفذاً للطعام والشراب، ثم احتاطت فجعلت له غطاء يغطي به محري النفس عند البلع خوفاً من أن تدخله اللقمة فيموت، ثم حعلت له ذلك اللسان الذي لا تحصي عجائبه ولا تعد فوائده، ثم جعلت له معدة مركبة تركيباً خاصاً لكي تفرز تلك العصارة المعدية، ثم جعلت له أمعاء يتم فيها الهضم الثالث، ودبرت ذلك تدبيراً حكيماً فأعانتها بالعصارة البنكاريسية، وبالصفراء التي تفرزها الكبد ثم ترسلها إليها عند الحاجة ، ثم خلقت له الكلي التي تفرز البول وهيأت له السبيل، فقل لي بعيشك كيف يكون حالك لو لم يدبر للغذاء سبيل الخروج كما دبر له سبيل الدخول، وكيف يكون الحال لو لم تكن لك كل هذه المفاصل وماذا كنت تصنع عند القيام أو الرقاد أو الجلوس، وإلي أي حد من المشقة والضيق لو لم يخلق لك هذا الأنف الذي تتنفس منه وتستنشق الهواء صافياً خالياً من التراب والغبار بواسطة ما وأودع الله فيه من تلك المصفاة العجيبة البديعة؟ وماذا كنت صانعا لو خلقت بلا يدين أو خلقت اليد بلا مفاصل تمكنها من الحركات المختلفة إلي الجهات المختلفة أو خلقت اليد بلا كف ولا أصابع أو خلقت الأصابع بلا أنامل ولا أظافر إلي آخر ما يطول الكلام فيه، ولا نستطيع أن نصل إلي باطنه وخوافيه غير أن نقول بالإجمال: إن الذي وضع فيك الرئتين لإصلاح الدم ووضع فيك القلب بشكله المخصوص وتقسيمه إلي أذين أيمن وأذين أيسر وبطين كذلك وما دبر لذلك من تلك الشرايين والأوردة فالأولي تحمل الدم الصالح والأخيرة تحمل الدم الفاسد، الذي فعل كل ذلك وفعل أضعافه وأضعاف أضعافه إلي آخر ما أدهش علماء الفسيولوجيا هو الطبيعة ومحض الصدفة والعشوائية؟! إن الطبيعة لا يمكنها التفنن في العمل ولا أن تلاحظ المقاصد والغايات فتدبرها تدبيراً وتقدر وسائلها تقديراً، ولكننا نري في الجسم الإنساني من الأشكال والألوان والصنائع والتدبيرات أفانين وأعاجيب فتجد نصفه الأعلى يغاير نصفه الأسفل ورأسه يغاير بدنه وكل عضو فيه يباين الآخر، وما من عظم صغير أو كبير ولا عصب ولا وريد ولا شريان إلا قد وجد لحكم عظيمة، لو تغير عن مكانه أو عن خلقته السوية لاضطرب الجسم الإنساني ومرض ولربما مات، وهاهو العلم الحديث بكل ما قد وصلوا إليه من علم عناصر الأشياء يعجز كل العجز عن أن يوجد لنا كائن حي لن أقول إنسان أو حتي عضو إنسان حي بلي سأقول بعوضة واحدة؟ مع إن الأمر لو كان طبيعياً لم يتوقف إلا علي عناصره التي يعرفونها جيداً ويعرفون تركيبها الجيني من الألف إلي الياء، ومن نظر بنور الإيمان في مثقال ذرة واحدة من الإنسان أو أي مخلوق من مخلوقات الله لوجد من الدلائل ما يكفيه علي وجود الصانع سبحانه وتعالي القائل: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَق}فصلت53.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)