المحلة الكبرى (مصر) - على قرع الطبول تتأهب الصفوف من الجانبين.. الجميع يحبس أنفاسه من أمر قادم.. الأمن المركزي يتأهب بدروعه وقنابله ورصاصاته.. وعلى الجانب الآخر تنحت الجموع الغاضبة فى الصخر لا من أجل لقمة العيش التى توارت عنهم، بل من أجل إنتاج الحجارة وزجاجات المولوتوف التي سيرشقون بها الجيوش الأمنية بمدينة المحلة الكبرى.
المشهد يتسع لأكثر من صورة.. لافتات احتجاجية.. أعمال تخريبية.. رصاصات مطاطية وحية.. قنابل غازية.. ودماء على الأرض، وحجارة تخترق حاجز الدخان المنبعث من قنابل الشرطة المسيلة للدموع.
تسميها الحكومة "فوضى" و"شغب"، ويسميها الناس "تظاهر سلمي" و"تحرك احتجاجي"، وتطلق عليها المعارضة "انتفاضة شعبية".
وبغض النظر عن كل هذه التسميات فما زالت أجواء التوتر المشحون بمصادمات دامية بين قوات الأمن وأهالى المحلة الكبرى (شمال) هى سيد الموقف، وذلك بعد سقوط ثالث قتيل مدني فى المواجهات أمس، ويدعى أحمد على محمد حماد (15 سنة) من منطقة الجمهورية بوسط المدينة.
حماد لم يكن ضمن المتظاهرين، لكن فضوله دفعه لمشاهدة ما يحدث بالشارع عبر شرفة منزله فسقط برصاصة انطلقت من سلاح أحد عناصر الشرطة –بحسب شهود عيان- لتسكن رأسه؛ الأمر الذي زاد من نقم الأهالى على الأمن، وأخذوا يطاردونهم، مؤكدين أن ما أسموه بـ"انتفاضة المحلة الشعبية" لن تنتهي إلا برحيل الحكومة التي فشلت فى الحفاظ على استقرار الأسعار ورفع الدخول.
يأتي ذلك فيما أكد شهود العيان وجود مئات الجرحى من الطرفين، وأعلنت المستشفى العام أن الإصابات بلغت 90 منهم 25 من الأهالي والباقي من الأمن، وأكد العديد من الأهالي أن كثيرًا من الجرحى تجنبوا الذهاب للمستشفى خوفا من القبض عليهم، وفضلوا الذهاب لعيادات ومستشفيات خاصة.
شعار الساخطين: "بلدنا وهنخربها"!
المظاهرات الاحتجاجية السلمية التي اندلعت عصر يوم الأحد أخذت مسارا تخريبيا واضحا أمس بعدما اعتدى البعض على بعض المتاجر والبنوك مثل بنك القاهرة، وكذلك مكتب البريد، وقطعوا الطريق البرى تماما بين القاهرة والمحلة، ووضعوا عوائق حديدية على قضبان القطار لإيقافه، ومن ثم إعاقة حركة السكك الحديدية، والهجوم على نقاط مرور، فضلا عن محاولة إحراق بعض المدارس وسرقة محتوياتها من أجهزة حاسب آلي وأثاث.
مشاعر السخط الشديد والإحباط واليأس التام من إمكانية تغيير الأوضاع المعيشية السائدة، بل والعداء السافر والحاد لكل ما يرتبط بالنظام العام، كانت القاسم المشترك تقريبا لكل من قام بهذه الأعمال التخريبية.

أحد المتظاهرين ذكر أن اسمه سيد سالم، قال لـ"إسلام أون لاين. نت": "البلد بلدنا نخربها، ما نخربهاش، بلدنا، وهانفضل نتظاهر لحد ما الحكومة تغور (ترحل)!".

وأضاف سالم الذي احمر وجهه غضبا: "ما حدش هايقدر يوقفنا ولا الرئيس نفسه؛ لأننا خلاص مش قادرين نعيش ومحدش حاسس بينا ولا بيعملوا لنا حاجة".
الانتقام أيضا كان باديا في خلفية المشهد التخريبي، لكن سالمًا برره بالقول : "حوالي 250 شخصًا معتقلين ولم يتم الإفراج عنهم، و 3 مننا ماتوا، وحوالى 500 مصابين.. ده يرضى ربنا، لازم نثأر لهم".
وقالت الحكومة في بيان رسمي لها: "إن من اشتبكوا مع قوات الأمن بالمحلة كانوا من محترفي البلطجة وإثارة الشغب".
وينفى الأهالي ذلك، ويقولون: إن المواطنين الغاضبين هم من قاموا بالمظاهرات، وبرروا قيام بعضهم بأعمال شغب لأنه "تعبير عن الغضب من الأوضاع السائدة".
وقال حسن محمد، أحد أهالي المحلة، لـ"إسلام أون لاين.نت": "لم نستعن ببلطجية، فكل من شارك بالتظاهرات من أهل المحلة، والمظاهرات الشعبية قامت أصلا لإحساسنا بالظلم، فعمال شركة الغزل والنسيج (الذين منع الأمن إضرابهم يوم الأحد) هم آباؤنا وأخوالنا وأعمامنا ومعاناتهم من الأجور الهزيلة تنعكس علينا جميعا".
وأضاف بلهجة فخر وتحد: "نعم كسرنا لوحة إعلانية عليها صورة الرئيس مبارك، وتصاعدت صيحاتنا بالويل للحكومة التي لا تشعر بأنيننا هنا؛ لأن العيشة بقت مره قوي".
"انقلب السحر على الساحر".

عبد الرحمن، هكذا يعرف نفسه، يؤكد من جهته أن هناك بالفعل بلطجية "اندسوا" ضمن المتظاهرين للنهب والسلب.
لكنه يضيف قائلا: "هؤلاء البلطجية هم أنفسهم الذين سبق أن استعانت بهم السلطة في الانتخابات السابقة لدعم مرشحي الحزب الوطني (الحاكم) ضد المعارضة!!".
ويصمت لحظة قبل أن يضيف: "انقلب السحر على الساحر؛ فمجموعات البلطجية هذه هي التي تحظى برعاية أمن الدولة؛ كانت مجهزة أصلا حتي يستخدمهم الأمن في انتخابات المحليات؛ ولكن ربك بالمرصاد.. هذه نتيجة مباشرة لاستعانة أمن الدولة في المحلة بالبلطجية؛ وغض الطرف عن أعمالهم الإجرامية".
وتابع قائلا، ولكن بلهجة خطابية حادة هذه المرة: "يا سادة الأمن للأسف هو المسئول الأول عن حوادث التخريب؛ لأنه احتضن هؤلاء البلطجية، هذا درس قاس لوزارة الداخلية التي تعلم جيدا هوية هؤلاء المجرمين".
الشباب صغار السن كانوا الأكثر حضورا في المظاهرات، فأعمارهم تتراوح ما بين 17 و20 عاما.
وقال أحدهم رافضا ذكر اسمه: "لا نجد عملًا ولا لقمة عيش.. خلي الشباب العاطل هذا ينفس عن زهقه.. غيرنا بينفس عن نفسه بالبانجو (مخدر شبيه بالقنب الهندي) والحشيش، أما نحن فليس معنا ثمن الحشيش!!".
كما كان لبعض الصبية الذين لا تتجاوز أعمارهم 14 عاما دور في تخريب العديد من المنشئات، ومحاولة الهجوم على قسم شرطة أول المحلة، مع تشجيع كبير للنساء اللاتي هتفن بسقوط الرئيس مبارك بألفاظ خادشة للحياء.
وإذا كانت الشرارة الأولى للمظاهرات بدأت صباح الأحد مع إضراب عمال غزل المحلة فإن الشرارة الثانية جاءت مع تجمهر نفذه أمس أهالي المعتقلين أمام قسمي أول وثان المحلة. وبلغ عدد المحتجزين قرابة 250 حيث اعتقلوا بشكل عشوائي الأحد، بحسب مصادر حقوقية.
بين السينما والواقع
عدد غير قليل من أهالي المحلة يتحدث بدوره عن الشرارة الحقيقية "للانتفاضة الشعبية"- كما يسمونها – فيقولون: إنها انطلقت من سيدة مصرية بميدان الشون في تمام الساعة الرابعة عصر الأحد، حينما وقفت وحيدة ومنفردة تهتف ضد غلاء المعيشة، وهو ما دفع الأمن إلى الاعتداء عليها بضربها على وجهها.
وربما استرجع المواطنون في هذه اللحظة بعضا من مشاهد فيلم "هي فوضى" الذي تسبب اعتداء رجل أمن فيه على فتاة بإشعال ثورة ضد الشرطة، باعتبارها رمزًا للسلطة، فبدأت مظاهرة بما يقرب من 250 شابًّا من مواطني المحلة، وانضم إليهم المئات ثم الآلاف من كل حدب وصوب، فقامت قوات الأمن بإلقاء مئات من القنابل المسيلة للدموع؛ مما تسبب فى ترويع الأطفال وإصابة أكثر من 300 طفل بحالات اختناق وتورم بالعينين.
رد الأهالى بإلقاء الحجارة ومحاصرة جنود الأمن من خلال الشوارع الجانبية، وإشعال الحرائق فى كل مكان بالشوارع، بجانب سلسلة من الاعتداءات على الممتلكات العامة.
ومزق الأهالى صور الرئيس مبارك من فوق الجسور، وهتفوا ضده، وضد نجله جمال القيادي بالحزب الوطني الحاكم قائلين: "يا جمال قول لأبوك المحلة بيكرهوك".
هتاف وصراخ
واتسم تعامل المتظاهرين وقوات الأمن بأسلوب الكر والفر للهروب من القنابل المسيلة التى تلقيها الشرطة والحجارة التى يقذفها المتظاهرون في مشهد أقرب لحرب عصابات.
وعلى إيقاع قرع الطبول تعددت الهتافات من قبيل: "يا ترخصوها يا نولعوها - غلو السكر غلو الزيت لحد ما بعنا عفش البيت - كفاية ذل كفاية مذلة"!.
وعلى الجانب الآخر لوحظ ملامح الإعياء على جنود الأمن المركزي الذين عانوا بين أوامر قادتهم بالوقوف لمدة أكثر من يومين بالشوارع والتصدي للمحتجين وبين الحجارة التي تلقى عليهم من كل حدب وصوب.
وصرخ بعضهم مخاطبا شبابا محتجين: "الله يخرب بيتوتكم.. عاوزين ننام.. بقالنا يومين مش عارفين نرتاح.. ربنا يهديكم!".
تهديد بالتصعيد
وهدد أهالي المحلة بتصاعد الاحتجاجات حال عدم الإفراج عن المحتجزين بالأقسام. وفى بيان عاجل إلى مجلس الشعب (الغرفة الأولى للبرلمان) اتهم سعد الحسيني النائب عن جماعة الإخوان المسلمين بالمحلة قوات الأمن باستفزاز المواطنين والتعدي عليهم وبقطع المواصلات وبتحويل المحلة لثكنة عسكرية.
ومع حلول مساء الإثنين انقطع إرسال الهواتف المحمولة للشركات الثلاثة، كما انقطع التيار الكهربي لساعات طويلة لتستطيع جرافات الأمن إزالة العوائق من الشوارع، ولدفع المحتججين للعودة إلى منازلهم.
وفيما انتظمت الحياة اليومية للمواطنين صباح اليوم الثلاثاء، تحولت المحلة إلى ثكنة عسكرية تخضع لحظر تجول حقيقي، فتم إغلاق جميع مداخل ومخارج المدينة تماما، وتجولت العربات المصفحة بالشوارع، وقامت باعتقال كل من تراه يسير فيها.
إلا أن جميع الشواهد تؤكد تعطش الأهالي لأي مظاهرة عدائية للسلطة دون أن تحاول أن يعرفوا لها هدفا محددا؛ ففي حي الجمهورية تجمع عشرات الأهالي عصر الإثنين حول جنازة بعد أن ظنوا أنها بداية لمظاهرة جديدة، وعندما تبينت لهم الحقيقة عاد الإحباط ليرتسم على وجوههم!.


منقول بالحرف من موقع اسلام اون لاين