قهوتنا على الانترنت
النتائج 1 إلى 6 من 6
  1. افتراضي قصة اشهر واخطر جاسوسة ::: امينة المفتي ::الفصل السابع

    الجزء السابع
    الرسالة الأخيرة :

    أفاد البلاغ أن شاباً فلسطينياًفي فرانكفورت بالمانيا، صرح لأحد المصادر السرية بأنه تقابل مع أحد الفلسطينيين فيفيينا، وبعد عدة لقاءات بينهما في حانات المدينة ومقاهيها، أخبره بأن له صديقةنمساوية يهودية، ماتت إثر تعاطيها جرعة زائدة من عقار مخدر، تزوج شقيقها الطيار منفتاة عربية مسلمة، وهربت معه الى فلسطين خوفاً من اكتشاف أمرها وملاحقة أجهزةالمخابرات العربية لها. وأن الفتاة كانت تدرس الطب في النمسا، وانتقلت الى لبنانبعدما أسقط السوريون طائرة زوجها، الذي اعتبر مفقوداً.

    كان البلاغ يحمل نبرةعالية من الشك، فلو أن الأمر صحيح إذن فهناك جاسوسة عربية بين الفلسطينيين. وطلبسلامة إعادة استجواب الشاب في فرانكفورت، ولو اضطروا لأخذه الى النمسا ليدلهم علىالفلسطيني الآخر. وذيل سلامة أوامره بضرورة السرعة، والى حين تصله معلومات آخرى،طلب حصر كل الطبيبات العربيات المتطوعات في المشافي الفلسطينية. . واللبنانيةأيضاً.
    كان علي حسن سلامة شاباً خارق الذكاء. شاهد بنفسه مقتل والده بيد اليهودوهو في الخامسة عشرة من عمره. ففرت به أمه من الرملة الى نابلس في الأردن. وعاش مثلآلاف الفلسطينيين في مخيم بائس يفتقر الى المياه والكهرباء. وفي نابلس أكمل تعليمهوكان دائماً من المتفوقين، لا يأبه بمطاردات الفتيات له برغم وسامته وجسمه الرياضي. فقد كان لا يهتم إلا بالسياسة فقط. وبعدما حصل على الثانوية العامة بتفوق، حصل علىمنحة للدراسة بالجامعة الأميركية في بيروت، التي كانت مجتمعاً لكبار المثقفينالفلسطينيين.
    واكتسب في الجامعة سمة الزعيم السياسي، حيث جمع من حوله الطلبةوألقى فيهم الخطب الثورية، وكان تأثيره يتزايد بينهم بعدما عرف لدى الجميع أن والدهمات بيد اليهود.
    وكان يقول دائماً "لقد نسونا وإذا لم نفعل شيئاً سنبقى دائماًفي الطين والوحل . . أذلاء. . بلا وطن". وتخرج من الجامعة مهندساً ليلتقي بعرفاتالذي كان قد أسس منظمة التحرير الفلسطينية، وبعد هذا اللقاء تبدلت حياته كلها، إذشغل منصب قائد القوة 17، ثم رئيس المخابرات الفلسطينية – (رصد ) ورئيس العملياتبمنظمة أيلول الأسود التي دوخت إلصهاينه بعملياتها الفدائية المذهلة.
    استغل عليحسن سلامة ذكاءه الشديد في تعقب الخونة والجواسيس، الذين يتم زرعهم بين صفوفالمقاومة وتمكن من كشف عشرين منهم خلال فترة وجيزة، وحصل على دورات تدريبية علىأيدي رجال المخابرات المصرية. إذ استهواه العمل الفدائي والكفاح، وعشق مطاردة عملاءالموساد أينما كانوا. وأفلت مرات ومرات من محاولات فاشلة لاغتياله، حيث كان يجيدالتخفي . . ماكر كالثعلب. . جسور كالأسد. . صلب كالفولاذ. وبعدما جاءه البلاغ عنوجود طبيبة عربية متطوعة تعمل لصالح الموساد في بيروت، كانت أمامه بعد ثلاثة أيامقائمة طويلة تضم أسماء 37 طبيبة. . أربعة منهن فقط حصلن على شهاداتهن العلمية منجامعات النمسا. وكن جميعاً آنسات . . إحداهن بالطبع كانت أمينة داودالمفتي.

    وفي انتظار التقرير الحاسم الذي سيجيء من أوروبا . . أمر سلامة بوضعالأربعة تحت المراقبة الصارمة طوال الأربع والعشرين ساعة. لقد كان السباق محموماًللوصل الى الحقيقة بأسرع ما يمكن . . وبينما الطقس مشحون بالشكوك والترقب، أحستأمينة بعيني الجاسوسة المدربة، بأن هناك عيوناً ترصدها. . ولا تترك لها مساحة منالحرية لتتحرك بيسر كما اعتادت دائماً. وأول ما فكرت فيه هو التخلص من جهازاللاسلكي، دليل الإدانة الذي سيقدمها الى حبل المشنقة. فبثت رسالتها الأخيرة الىالموساد : (آر. كيو. أر. هناك من يراقبني ليل نهار منذ الأمس. أنا خائفة ومرتبكة. سأموت رعباً. أفيدوني. نفيه شالوم.

    خبراء المخابرات دائماً يشفقون علىالعميل الخائف، خاصة إن كان مزروعاً ببلاد الأعداء. ويدركون جيداً حجم المعاناةالنفسية الرهيبة التي تغشى تفكيره، وقد تقود مسلكه الى نقطة النهاية والسقوط، بسبوقوعه في حالة ضعف تدمر أعصابه، وتعصف بجرأته وبثباته. وهم في تلك الحالات يفضلونأن يفر عميلهم بحياته وبأي ثمن. لذلك ردوا على أمينة بعد أقل من نصف الساعة: (ضعيالجهاز بسلة قمامة الشقة العلوية. إحرقي الشفرة. غادري بيروت بهدوء الى دمشق بطريقالبر. ستجدين رسالة بمقهى "الشام".). تنفست أمينة الصعداء، وشرعت فوراً في تنفيذأوامر رؤسائها.
    لقد كان عليها ألا تلتقي بأحد أفراد شبكتها. . لكن يجب تحذيرهممن السعي اليها. لذلك اتصلت من الشارع بخديجة زهران وأخبرتها أنها في طريقها الىدمشق للسياحه .
    حملت أمينة حقيبة يدها الصغيرة يعصف بها الخوف والهلع وغادرتشقتها، لتدور بعدها في شوارع بيروت أشرس عملية هروب ومطاردة بين الجاسوسة الخائفةومطارديها. وفي موقف السيارات المتجهة الى دمشق اعتقدت بأنها أفلتت من المراقبة،حتى إذا ما صعدت الى الباص واطمأنت في مقعدها، فوجئت برجلي أمن يقفان الى جوارها،فألجمها الخوف وانخرست . . واعتقدت بأنها النهاية الحتمية لمشوار خيانتها، فقررتبألا تموت على أيدي الفلسطينيين. وبلا وعي . . انطلقت أصابعها في لحظة كالبرق، تبحثعن كبسولة سم السبانيد بين خصلات شعرها. لكن أيدي رجلا الأمن كانت الأسرع، إذ انقضتعليها كما تنقض حية الكوبرا على فريستها، واقتيدت الى سيارة بيجو استيشن مفتوحةالأبواب كانت تنتظر خلف الباص، يقف الى جوارها رجلان آخران جامدي الملامح. وقبلماتبلغ أمينة البيجو فشلت ساقاها عن حملها، فاضطر الرجلان الى رفعها عن الأرض رفعاً،وألقيا بها الى داخل السيارة التي انطلقت كالريح الى حي الفكهاني، تسبقها سيارةأودي - 80 - إل إس تقل أربعة رجال مدججين بالسلاح.
    وأمام أحد المباني بالقرب منالمدينة الرياضية، سحب الرجال العميلة المغماة الى الداخل، حيث أودعت في غرفة ضيقةتحت الأرض، تكبل يديها من الخلف سلسلة حديدية طويلة ربطت الى الحائط. لم يكن لدىالمخابرات الفلسطينية - رصد - حتى وهم يراقبونها دليل واحد ضدها. فالتقرير لم يصلبعد من أوروبا ليؤكد براءتها من عدمه. لكن حينما أمسك رجال الأمن بها كانت ملامحهاكلها تنطق بالخوف وتضج بالرعب، ولأنهم اعتادوا تلك الملامح التي ترسم عادة على وجوهالخونة، أيقنوا بأن الأمر جد خطير . . خطير جداً. وأن الطبيبة المتطوعة متورطة فيجرم اثيم ....خاصة بعدما تعرضت المادة السائلة بالكبسولة للتحليل، واتضح أنها سمالسبانيد الذي تكفي نقطة واحدة منه لقتل فيل بالغ.
    لقد كان لا بد من تركها هكذالعدة أيام بدون استجواب، حتى تنهار إرادتها الى الحضيض من ناحية، ولمحاولة امتلاكأدلة مادية من ناحية أخرى. وعلى ذلك . . قام فريق متخصص بتفتيش شقتها تفتيشاً غايةفي الدقة. . ولعدة مرات فشل في العثور على دليل واحد يدينها، فالعميلة المدربة . . وبرغم خوفها الشديد، وجدت أمامها الفرصة الطويلة لإزالة أي آثار أو أدلة قد تقودهاالى الموت. ولم تترك خلفها سوى المصحف الشريف وقد انتزعت من منتصفه عدة صفحات، هيفي مجملها كل سورة "بني إسرائيل"، وصفحة ونصف من سورة "الكهف" وكان هذا الأمر يمثللغزا محيراً لرجال رصد، الذين فشلوا في "رصد" العميلة دون أن تلقي بظلالها عليهم .
    كان جهاز الأمن والمخابرات - رصد - يعمل في تلك الفترة تحت قيادة أبو إياد "صلاح خلف" برئاسة علي حسن سلامة رئيس العمليات والدينامو المحرك والعبقري الفذ. ويعد الجهاز أكثر العناصر المكونة سرية داخل منظمة التحرير، فهو جهاز الاستخباراتالأولية، وعمليات مكافحة الجاسوسية، وبه وحدة سرية للعمليات الخاصة، وله مكاتب فيكل من لبنان ومصر والأردن و السعودية والكويت وسوريا.
    ويصعب تقدير عدد أعضائهعلى وجه الدقة. وأبو إياد هو معلم الجواسيس الأول في منظمة التحرير ، والمسؤول عنأمنها وجهازها السري، وهو أيضاً حلقة الاتصال الرئيسية بينها وبين الجبهاتالمعارضة، وأحد العناصر الضالعة في تخطيط وتنفيذ عملية ميونيخ، وكان هو الذي أمر في 1973 بالاستيلاء على السفارة السعودية في الخرطوم وقتل السفير الأميركي ونائبه، كمالعب دوراً رئيسياً في حادث مقتل السفير الأمريكي فرانسيس ميلوي في بيروت عام 1976،وكذلك في عشرات العمليات المسلحة الأخرى. وما إن وضع أمام أبو أياد تقرير كامل عنأمينة المفتي، حتى زم شفتيه ملقياً برأسه الى مسند كرسيه، ينظر الى حلقات دخانسجائره المتشابكة في صمت طويل . . وقال لسلامة في وجوم: يجب ألا نعاقب امرأة عربيةدون أدلة قطعية قوية تؤكد إدانتها. فالننتظر تقرير رجالنا في أوروبا.
    وحتى يصلالتقرير فلا عقاب ولا استجواب.
    هكذا قبعت أمينة في زنزانتها المظلمة بباطن الأرضتترقب الموت ببطء، وتنسل من عروقها نبضات القوة رويداً رويداً، حتى استحالت الدقائقعندها الى جحيم ما بعده جحيم . وانقلب الانتظار الى وحش مسعور يفتك بعقلها . . وبوجدانها وكأنه العواء
    كان رجال المخابرات الفلسطينية في أوروبا يلهثون خلفالشاب الفلسطيني العابث، يرافقهم الشاب الآخر صاحب البلاغ، والذي استقدموه منفرانكفورت رأساً الى فيينا. فهو الوحيد الذي يمكنه التعرف عليه بسهولة. هكذا جابواشوارع فيينا وحدائقها ومواخيرها دون جدوى، وكأنما انشقت الأرض وابتلعته. ولم يكنأمام الرجال إلا طريقة واحدة - غاية في الخطورة – لاستجلاء الحقيقة من مصادرهاالرسمية، وهي البحث عن سجلات مكتب "الزواج من أجانب". وكان الخوف كل الخوف من لفتانتباه رجال الموساد في النمسا الى ما ينقبون عنه، لذلك كانت عملية البحث تتم تحتستار كثيف من السرية . . والتكتم
    .
    وبواسطة خطاب مزور صادر عن السفارة الأردنيةفي فيينا، يخاطب إدارة مكتب الزواج من أجانب، أمكن الوصول الى عنوان شقتها والىحقيقة الزواج المحرم. وفي الحال طار أحد الضباط الى بيروت يحمل صورة رسمية من عقدالزواج، في ذات الوقت الذي اقتحم فيها رجال رصد شقة أمينة المفتي بفيينا، حيث عثرواعلى أجندة متوسطة الحجم، سجلت بها أمينة مذكراتها وتفاصيل عملها في بيروت قبلرحلتها التدريبية الأولى في الأرض السليبه .
    هكذا انكشف الأمر دون أن يلاحظ رجالالموساد المنتشرون في النمسا أي شيء، أو يخطر ببالهم أن رجالاً يفوقونهم ذكاءينقبون عن ماض غامض لعميلتهم المدربة. تجمعت كل الأدلة على مكتب أبو إياد الداهية،ولم يكن أمامه سوى محاصرة أمينة والسيطرة عليها، لتكشف النقاب عما أبلغته للموساد،ودورها الحقيقي في ترصد حركة المقاومة، خاصة بعد فشل عدة عمليات فدائية كان وراءهاجاسوس خفي، وأيضاً. . لترشد عن بقية أعضاء شبكتها في بيروت أو خارجها.
    كانت هناكخطط عديدة لاستجواب الخونة والجواسيس يتبعها رجال المخابرات الفلسطينية. أماوالحالة هنا لامرأة عربية خائنة فالوضع يختلف. إنها إحدى الحالات النادرة التيتواجه أبو إياد ورجاله. لذلك، اقترح علي حسن سلامة الاعتماد على خطة جديدة تناسبالحالة، تقوم على إيهامها بأن زوجها موشيه كان أسيراً لدى السوريين، وقد أُطلقسراحه منذ أيام ضمن فريق من الأسرى في عملية مبادلة نشرت عنها الصحف. وكان الغرض منكل ذلك إشعار الجاسوسة بعقدة الذنب، لتحس بالندم الشديد على ما ارتكبته فتعترف بلاإكراه أو تعذيب. وعلى ذلك . . . سربوا اليها إحدى الصحف اليومية وقد تصدرت صفحتهاالأولى صورة زوجها الأسير وسط العديد من زملائه، قبلما يغادرون سوريا الى فلسطينبرفقة رجال الصليب الأحمر. كانت هناك بالطبع نسخة وحيدة لتلك الصحيفة طبعت خصيصاًلأجل المهمة المحددة. وما إن قرأت أمينة الخبر، حتى لفها صمت غمس بالذهول، وقد جحظتعيناها لهول الصدمة والمفاجأة، وانطلق من جوفها صوت نحيب رتيب كأنه العواء. وليسهناك أبلغ مما كتبته بنفسها عن تلك اللحظة الخطيرة من حياتها:
    الأشباح في الزنزانة :

    تقول أمينة في مذكراتها فيالسادس من سبتمبر 1975 ، كنت أحاول أن ألملم ذاتي المبعثرة داخل زنزانة ضيقة حقيرة،مقيدة بالجنازير الى الحائط، عندما انفتح الباب في الصباح، ودخل الحارس المسلح ذوالشارب الكثيف يحمل فطوري المكون من رغيف وشريحة جبن مطبوخ، وجلس أمامي كالمعتاديتصفح جريدته، ويناولني قضمة بعد قضمة، عندما لمحت الخبر بالصفحة الأولى:
    ياالهي . . إنه موشيه . . نعم موشيه . . صورته تتصدر الصفحة ومن تحتها اسمه كاملاً. خيل ألي انني أحلم . . أطير الى الأفق وأكبو – حلقومي يتشقق ورأسي تتأرجح غصباًعني. وكأنني أفيق من غيبوبة الموت، رجوت الحارس أن يقرأ على ما كتب فنهرني ساخراً . . لحظتئذ . . صرخت متوسلة اليه أن يقرأ. فأغلق فمي بالرغيف ولطمني بقسوة على وجهيوهو يردد: مالك والصحيفة أيتها المومس الحقيرة. . ؟ لفظت الرغيف وابتهلت اليه فبسطالصفحة أمامي على الأرض. . فانحنيت أقرأ لا أصدق، حتى انكفأت على وجهي كالمنومة،أعض البلاط . . وألعق الحسرة . . والفرحة، وألعن عمراً ذاب في الإرهاقوالغضب.
    لست أدري بالضبط كنه تلك الأحاسيس الجياشة التي اجتاحتني، خليط عجيب منالمشاعر تكاد تعصف بي، وتفتك برأسي. كم كنت في شوق لأن أصرخ . . وأصرخ . . وأصرخ . . وأمزق وجهي بأظافري حتى يدمى، لكن يداي مشدودتان بالسلاسل، ولا قبل لي إلابالصراخ، فصرخت . . صرخت من أعماق شراييني وأنسجتي، وجذبت قوة صرخاتي من قلبيوأعصابي، إذ جثم على صدري حمل ثقيل من الندم . . ينزف منهم الدم في فورة كالبركان،وينزلق على أرض الغرفة فأحس به ساخناً لزجاً، يا إلهي . . إنها أشباح عشرات الضحاياالذين قتلتهم بغبائي . . وقذارتي. تطوف الأشباح من حولي ، ينبعث منها صوت هديرمخيف، فأضحك . . ثم أصرخ. . وأضرب رأسي في الهواء لأصرف الأشباح عني، وأفيق علىموشيه الحبيب . . جاء لينقذني من عذاباتي . . وانحناءات عمري القاتلة

    مدرسة أبو داود :

    في الثامن من ستبمبر 1975، بعد تسعةأيام من اعتقالها، اقتيدت امينة داود المفتي الى مكتب أبو داود حيث جرى استجوابهابذات الأسلوب الذي استخدمه جهاز المخابرات الألماني – الجستابو – مع الأسرىوالجواسيس أيام الحرب العالمية الثانية. وهو أسلوب يعتمد على التوسل بعلم النفس فيكسر حدة الخوف لدى الجاسوس، دون اللجوء الى أي وسيلة من وسائل الضغط أو التعذيب، معمحاصرته بوابل من المعلومات التي تم جمعها عنه وعن رؤسائه، فيضطر مذعناً الىالاعتراف بكل ما لديه حيث يرى أنه لا ضرورة للإنكار، طالما انكشفت كل الأسرار التيكان يعتقد أنها مجهولة. ولكي نشرح أسلوب أبو داوود في استجواب العميلة، علينا أننقرأ الشهادة الرسمية التي أداها الملازم "سكراف" من المخابرات الألمانية، أمامهيئات التحقيق الأميركية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وهزيمة ألمانيا. فقدشكلت في أمريكا هيئة للتحقيق مع بضع مئات من الطيارين الأمريكيين الذين أسروا فيألمانيا النازية، وكانوا متهمين بالخيانة وإفشاء الأسرار الحربية عقب أسرهم، ولكنهمنفوا جميعاً أنهم تفوهوا بأي سر، كما أكدوا أن أحداً لم يضربهم أو يمتهنهم،وبالتالي لم يحاول أي إنسان أن يرغمهم على الإدلاء بأي أقوال، وقد استدعى الأمرإحضار سكراف للمثول أمام إحدى هيئات التحقيق الأميركية، لاستجوابه في شأن التقاريرالتي كان يرفعها بعد استجوابه لكل طيار أسير
    .
    وقد كان لشهادته هذه أكبر الأثر فيتبرئة ساحة هؤلاء الطيارين. يقول سكراف:
    خلال سني الحرب الطويلة المريرة، قمتمنتصباً في وضع الانتباه ضارباً كعبي أكثر من خمسمائة مرة، مؤدياً التحية العسكريةفي أصح أوضاعها لضابط طيار أميركي، شاء حظه أن يقع أسيراً في أيدي قواتنا. وكنتأقدم نفسي للأسير قائلاً في أدب وبشاشة: سيدي . . أنا الملازم سكراف . . وأنا مكلفبسؤالكم بضع أسئلة، هل لسيدي أن يجلس؟ . . من واجبي أن أذكرك بحقوقك التي تكفلتهالك اتفاقية جنيف لمعاملة أسرى الحرب، فلك أن تجيب على الأسئلة الثلاثة : اسمك . . ورقمك . . ورتبتك فقط ولا شيء خلاف ذلك . . سيجارة سيدي. . ؟ ويضيف الضابطالألماني: مر على مكتبي جميع طياري المقاتلات الأميركية والبريطانية الأسرى،وكالمعتاد فقد أجابوا على الأسئلة الثلاثة عند بدء أسرهم، ثم أرسلوا الى بعد ذلكللحصول منهم على المعلومات اللازمة، وأستيطع أن أقرر أن كل فرد من الخمسمائة ضابطالذين مروا بغرفتي، قد أدلى بكل المعلومات التي طلب مني أن أحصل عليها منهم، دونإهانة أو تعذيب، ذلك أنهم لقنوا عن الطريقة التي يتصرفون بها إذا ما وقعوا فيالأسر، واحتمال التعذيب الشديد حتى يرغموا على الكلام.
    لكن . .غاب عنهم الحالةالنفسية التي يكون عليها الأسير بعد اكتسابه لهذه الصفة، لمجرد شعور المرء بأنهأسير تتولد عنده ضغوط شديدة تشعره بعدم راحة الضمير كأنه المذنب، حتى ولو كان أسرهخارجاً كلية عن إرادته، فيظل موطناً نفسه على مقاومة كل وسيلة لاستجوابه، وكانعلينا أن نستغل هذه الحالة في عملنا، بأن نتصرف في معاملة الأسير على العكس تماماًمما يتوقع.

    الحية الناعمة :

    كان أبو داودضابطاً من ضباط المخابرات الفلسطينية القلائل الذين تميزوا بأسلوب المهادنة فياستجواب الجواسيس، وكان يرى أن تلك الطريقة هي الأنسب لمعاملة هؤلاء الخونةلإشعارهم بمدى فداحة الجرم الذي ارتكبوه. ومن خلال المعاملة الحسنة، بدلاً منالتعذيب الذي يتوقعونه، يمتلكهم الإحساس بالذنب فيعترفوا. لكن يبدو أن فلسفةالألمان أيام الحرب العالمية الثانية، لم تكن ذات نفع مع جاسوسة محترفة مثل أمينةالمفتي، التي دربت على كيفية مواجهة المواقف الصعبة، وترتيب الأفكار بحيث لا تخطئإذا ما اضطرت الى سرد رواية ما مرتين.
    وكانت تمارين الذاكرة التي أجادتها تماماًخير وسيلة لها للتمسك بأقوالها دون تغيير، وبرغم نفاذ صبر أبو داود الذي واجههابمذكراتها التي كتبتها بخطها وخبأتها في شقتها في فيينا، إلا أن الجاسوسة أنكرت كلشيء. وعللت كتابة مذكراتها بما تحويه من تفاصيل غاية في الدقة، بأنها مريضة بالتوهم Delusion وبأحلام اليقظة، وقد تخيلت نفسها بالفعل عميلة إسرائيلية في بيروت نظراًلخيالها الخصب الجامح، ولتأثرها الشديد بقصة حياة الجاسوسة الهولندية الشهيرةمارجريت جيرترود "ماتا هاري"، وابنتها الجاسوسة باندا ماكلويد. هذا فضلاً عن رغبتهافي الانتقام من العرب لفقد زوجها موشيه، وعجزها عن تحقيق ذلك، مع شعورها المتزايدبالغربة والكآبة، وإحساسها بالاضطهاد Persecution . كانت إجابتها المرتبة، وبكاؤهاالمستمر وتشجنات عضلات وجهها، أمر يدعو الى الاحساس بالأسف، فهي تخرج من مأزق تلوالآخر وكأنما أيام الاعتقال الانفرادي التسعة، كانت بالنسبة لها الفرصة الذهبيةلترتيب الأفكار استعداداً للمواجهة المصيرية . لذلك . . كانت شكلاً – في غايةالثبات أمام المحقق. .
    أما بالداخل . . فهناك عمليات عقلية معقدة تتفاعل . . وتحلل . . وتستنبط . . وتختزن . . وتتوهج. فتطلب المزيد من الماء بالسكر لتمنحبدنها المزيد من القوة Energy واليقظة. لكن ضابطاً كفئاً مثل أبو داود لم يكن منالسهل أن يقنع بصدق إجابتها، فهو رجل حاد الذكاء عظيم الخبرة في تخصصه، حصل علىدورات تدريبية عديدة على أيدي رجال المخابرات المصرية في تعقب الجواسيس، وقرأكثيراً في علوم النفس والمنطق والطب العقلي، وتصنيفات الأمراض النفسية، وبرع فيكيفية التعامل مع مرضى الخيانة والكذب، واستخلاص النتائج بعد تحليل دقيق للألفاظوالمدلولات، حتى اشتهر عنه امتلاكه لحاسة شم قوية تجاه الجواسيس، وقدرته الخارقةعلى اختراقهم والحصول على اعترافاتهم بسهولة، وإن اضطر في بعض الأحيان الى تغييرمنهجه في الاستجواب، بما يتناسب وثقافة المتهم وذكائه وقدرته على المقاومة. فهويستطيع أن يلعب بكل الكرات في تناسق وتتابع كأنه فريق كامل في ملعب شاسع.
    هكذاتدرب أبو داود وأجاد . . وكان عليه أن يحاصر أمينة بأسرع ما يمكن، لكي لا يحس أعضاءشبكتها باختفائها الغامض فيفرون الى خارج البلاد. لكنه وقف حائراً أمام تلك المرأةالماكرة، التي استجمعت كل قواها دفعة واحدة وقاومته بشراسة لم يعهدها. . كانت تدافععن مصيرها باستماتة من يوشك على الغرق. فهي تعلم في قرارة نفسها أن مستجوبها أشدمنها ذكاءً وحدة . . وأشرس منها صلابة وقوة. ندان متضادان كل منهما يسعى الى هدفمغاير للآخر. ثمانية عشرة ساعة متصلة وأمينة لا زالت كما هي . . لم تضعف أو تنهار. . أو حتى تبدل كلمة واحدة من أقوالها. . وأبو داود يسألها السؤال نفسه عشرات المراتفي دهاء وحنكة، وهي تجيب في مراوغة واستبسال. فكانت إجاباتها كلها متناسقة ماعدانقطة واحدة لم تكن أبداً مقنعة، ألا وهي سم السيانيد، حيث بررت وجوده معها بأنهامصابة بالجنون الدوري Cyclothynia ، وهذا الأمر يسبب لها مضايقات وتشنجات تدفعهاللتفكير بالانتحار.
    ولما كان سم السيانيد غير متواجد بالأسواق أصلاً، وتستخدمهفقط أجهزة المخابرات للتخلص من ضحاياها، فقد كان الأمر مثيراً للشك ولا يقبلتأويلاً هشاً كالذي جاء على لسان أمينة. ومنهنا . . لم تكن أمام أبو داود سوىأساليب الاستجواب المعتادة، بعدما فشل في انتهاج نظرية الجستابو معها، وهي اللجوءالى العنف والتعذيب، وقد كان كارهاً لذلك جداً إلا أنه اضطر الى ذلك غصباً عنه، فهوكما قال يتعامل مع حية ناعمة الملمس. . كلما حاول الإمساك بها انزلقت من بين أصابعههاربة. وأناب عنه زميله "أبو الهول" للتحقيق معها.


    وانتظروووووووووووووووو باقى القصة
    التعديل الأخير تم بواسطة عفريت أفندى ; 24 - 11 - 2010 الساعة 05:41 AM

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    24 - 7 - 2009
    ساكن في
    في سكة الي يروح مايرجعش
    العمر
    40
    المشاركات
    263
    مقالات المدونة
    1
    النوع : ذكر Egypt الفريق المفضل  : الاهلي

    افتراضي

    مع ان الخط كان صغير جدا وعيني اتعمت من القراية
    بس هتابع القصة لي اخرها ان شاء الله
    تسلم ايدك

  3. افتراضي

    مع ان الخط كان صغير جدا وعيني اتعمت من القراية
    بس هتابع القصة لي اخرها ان شاء الله
    تسلم ايدك

    اسفة جدا يا محمد انى عذبتك بس اكيد مش هنسى المرة الجاية اكبر الخط
    مرسى لمروورك الوحييييييييييييييييييييي ييد

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    16 - 12 - 2009
    ساكن في
    طلعت م القمقم خلاص استعدوا بئه
    المشاركات
    6,069
    النوع : ذكر Egypt الفريق المفضل  : الاهلي

    افتراضي

    فى إنتظار باقى القصه

    تسلم الأيادى يا أسماااء










    ثورة 25 يناير

    التغيير

    الحريه

    العدالة الإجتماعيه






    إلى كل من يحب مبارك أبشروا قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :
    يحشر المرء مع من أحب



    يا ناس حد شااااااف توقيعى ؟

    walid وليد


    البحث على جميع مواضيع العضو عفريت أفندى

  5. افتراضي

    فى إنتظار باقى القصه

    تسلم الأيادى يا أسماااء
    اكيد هنكمل انتظرونا

  6. افتراضي

    التعديل الأخير تم بواسطة عفريت أفندى ; النهاردة الساعة 06:41 AM
    ومرسى ليك كتير انك ساعدتنى فى تعديل الخط انا فعلا مكنتش عارفة اعدلة أزاى
    مرسى ليك مرة تانية
    التعديل الأخير تم بواسطة اسماء حمدى ; 24 - 11 - 2010 الساعة 03:32 PM

 

 

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. قصة اشهر واخطر جاسوسة ::: امينة المفتي ::الفصل الحادى العاشر
    بواسطة اسماء حمدى في المنتدى المنتدى السياسى العام
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 30 - 11 - 2010, 09:30 PM
  2. قصة اشهر واخطر جاسوسة ::: امينة المفتي ::الفصل السادس
    بواسطة اسماء حمدى في المنتدى المنتدى السياسى العام
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 24 - 11 - 2010, 03:28 PM
  3. قصة اشهر واخطر جاسوسة ::: امينة المفتي ::الفصل الثانى والثالث
    بواسطة اسماء حمدى في المنتدى المنتدى السياسى العام
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 24 - 11 - 2010, 03:24 PM
  4. قصة اشهر واخطر جاسوسة ::: امينة المفتي ::الفصل الرابع
    بواسطة اسماء حمدى في المنتدى المنتدى السياسى العام
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 23 - 11 - 2010, 05:24 PM
  5. قصة اشهر واخطر جاسوسة ::: امينة المفتي ::
    بواسطة اسماء حمدى في المنتدى المنتدى السياسى العام
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 22 - 11 - 2010, 01:01 PM

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • مش هتقدر تضيف مواضيع جديده
  • مش هتقدر ترد على المواضيع
  • مش هتقدر ترفع ملفات
  • مش هتقدر تعدل مشاركاتك
  •  
جميع الحقوق محفوظة لمنتديات مصراوي كافيه 2010 ©