ضيافة!..
لم أتوقع أن تكون البوابة سهلة الفتح إلى هذا الحد !!.. فما إن دفعتها بجهد تافه حتى سُمع ذلك الصّرير الشهير الذي يصدر عن أيّ باب قديم في العالم..
ماذا رأيت بالداخل ؟... في الواقع لم أر شيئا بالمرة.. فالظلام كان كثيفا لدرجة غير عادية !..
كنت أتابع بقعة الضوء بنهم وهي تبدد السواد و تكشف عن أثاث باليّ، مُغطّى بذلك الثوب الأبيض المـثير للوحشة.. وطبعا هناك خيوط العنكبوت في كل مكـان...
صَـعُب عليّ التقدّم.. ولكني تقدمت، متمنيا ألاّ ينغلق الباب لوحده بصوت مدوّي كما في أفلام الرعب !... إلاّ أن ذلك لم يحدث لحسن حظي..
واصلت الخطو بحذر شديد ولُهاثي المضطرب قد بدأ يزعجني... جوّ رطب ثقيـل يجثم على صدري..
هناك دُرج حلزوني يصعد لأعلى.. نقش جميل على الجدران.. غريب !.. هذا ليس بناءا عربياّ، بالتأكيد..
إطارٌ ضخم تتوسّطه صورة رجل عجوز يطالعني بفتور... تمثـال هنالك، لم أحدد ملامحه جيدا.. و...
صوت صرير الباب ورائي !!.. لا بأس.. ما لي أرتعش هكذا !.. إنما هي الريـاح بلا شك... نعم.. لا بد أن تكون الرياح، لأنّ...
( تشراااااااااااك !! )
* * *
هل أستطيع القول أن قلبي توقف عن النبض ؟.. لا.. إنه أمر مُحال في عالمنـا.. و لكني أستطيع القول، على الأقل، أن الأوكسجين لم يعد يتخلّـل أنفاسي فضلا عن شراييني، عند سماعي لدويّ انغلاق الباب... وكنت سأخالها الريـاح من جديد لولا أن سمـعت و رأيتُ.. المزلاج يُسحب !!؟؟..
تمنيتُ لو لم أصدق ما رأته عيناي.. تمنيتُ أن أكون مجنونـا، أرى أشيائا و أسمع أصواتا لا تعدو مجرد هلوسات سمـعية و بصرية... تمنيتُ و لكن..
و لكن الباب قد أوصد بالفعل و المزلاج سُحب لوحده !، مُصدرا ذلك الصوت المعدني الصّـارم.. حدث ذلك أمام ناظريّ.. حدث ليفقدني صوابي بالكـامل..
وخزتُ يدي بشدة حتى تأوّهتُ من الألم.. استشعرتُ سـائلا دافئا، يُلطّخ رأس أُصبعي.. وضعت هذا الأخير في فمي.. تذوقته.. وقد كـان دما !..
هذا ما كنت أخشاه.. أن أكون مضطرا لتصديق كل هذا... أنا لا أحلم إذن.. و إلاّ فمن أين جاء الدم ؟.. و لماذا أشعر بهذا الألم المروّع بكفي ؟؟..
* * *
لا أعرف كم بقيتْ عيناي جامدتان على مشهد الباب الضّخم.. أثقلُ صمت على الإطلاق جثم على صدري حينها.. حتى حركة ستائر النوافذ الممزقة توقفتْ !.. ما زادني رعبا..
أردت التّنحنحَ حتى أطرد حشرجةً تجمّعت بحلقومي، فلم أستطع.. و سجنتُ شهقة لوقت لا يعلمه إلاّ الله و أنا في حالة نادرة من الشرود و انعدام الحيلة..
ربما ذلك الصوت الخافت الذي سمعتُ هو ما جعل قلبي يصحو من سباته و يدق بقوة حتى تردّد صداه بدواخلي..
لم أحدد طبيعة الصوت تماما.. و كل ما حاولت فعله حينئذ هو التـقدم باتجاه الباب للخروج من وكر العفاريت هذا..
و لكــن !!..
* * *
ربّاه!.. ما هذا الذي أسمع ؟.. من أين يأتي هذا الصراخ ؟.. و من يركض فوق ؟؟..
تسمّرتُ مكاني و أنا أحدّق ببقعة الضوء الشّاحبة على الأرضية الخشبية، العتيقة...
تخترق تلك الصرخات الممزوجة بضحكات شيطانية أذني لأشـعر بدوار مهول يوشـك أن يطرحني أرضا و ألم حاد ببطني من فرط الرّعب..
أميّزُ، الآن، طبيعة تلك الأصوات بوضوح.. ربما لأنها تقترب!.. تبدو كأنها.. ضحكاتُ طفلة صغيرة.. ؟؟؟؟؟؟..
و لكن مهلا.. لابد أن أجد شيئا منطقيا على الأقل هنا... ماذا تفعل طفلة صغيرة بهذا المنزل المهجور و مع هذا الوقت المتأخر من الليل ؟؟..
الصوت يقترب أكثر!..
هل يعقل أن يكون كل هذا مجرد تخيلات شيطانية، لا أساس لها من الصحة، نتجت عن توتري العصبي ؟.. يا ليته التـفسير الأصح..
الصوت يقترب و يعلو أكثر فأكثر!...
بسم الله الرحمان الرحيم... أعوذ بالله من الشيطان الرجيم...
ارتفع الصراخ الضّاحك و صار واضحا بنبرته الطفولية... و..
بسم.... الله.. الرحمــان....
صوت شيء يركض على الدّرج !!!..
* * *
هنا.. هنا بالذات خرجتُ من شرنقة الجمود التي كانت تغلفني و اندفعتُ بسرعة نحو الباب لدرجة أن رجلـيّ التوتا ببعضهما فسقطتُ و اصطدم رأسي بعنف على الأرضية ليتردّد صدى الارتطام به طويلا..
أسمع الآن صوت ضحكة طفولية، ساخرة.. ورائي مباشرة !...
لا.. لن ألتفت.. سأواصل الركض حتى أخرج من هذا المكان المجنون..
قفزت من مكاني و خطوتُ خطوات واسعة باتجاه الباب المغلق... قطرة دافئة تنساب على خدي.. إنه الدّم !.. قد أُصيب رأسي إثر السقوط..
وصلتُ أخيرا إلى الباب و لكن قبل أن ألمس المزلاج فوجئت بشيء قفز على كتفي..
* * *
لماذا يبدو المنزل مهجورا إلى هذا الحد ؟..
* * *
لم أستطع حمل جسدي من وطأة الرعب فسقطتُ و ذلك الشيء لازال متشبثا بعنقي و أنفاسه الكريهة تمتزج بأنفاسي..
التفتّ.. و..
رأيتُ اليدين و الرجلين ثم.. الوجه..
* * *
لم أخطأ التـقدير.. لقد كانت طفلة... و لكنها ليست بطفلة !..
رداء قذر حتى الركبتين.. ثم عظمتان نحيفتان !..
شعر أشعث، منتصب كأنه أشواك حادة !..
أما الوجه.. فمشوه و غير مغطى بالجلد كُـلّيته، و كأن به الجذام !..
و لا أذكر أنني رأيتُ عينين !.. فمقلتاها فارغتان إلاّ من ظلام مُـهول !..
ثم اليدين... فما عدا القليل من الجلد المشوه، المعفّن.. يمكنك أن تُميّز بوضوح عظـام الأصابع النحيفة..
رأيتُ كل هذا تحت ضوء القمر المنبعث من النافذة قرب الباب الموصد !.. تعوّذت في قرارة نفسي من الشيطان الرجيم، و ارتجفت ركبتاي حتى أوشكتُ على الانهيار..
ثم تذكرت أن المصباح قد سقط من يدي في مكان ما..
وثبتُ مذعورا فانفلتُّ من قبضتها لتسقط أرضا.. و هرولتُ كالسّكران وقد فقدت القدرة
على التحكم في حركاتي.. ثم لم ألبث أن سقطتُ ثانية و تقيّأت كل ما بجوفي...
* * *
نَهَضَتْ و هي تواصل ضحكها المرعب.. و ببطء شديد توجهتْ إلى النافذة...
لم أنتظر لأعرف ما تنوي فعله و لملمتُ جسدي بصعوبة جمّـة.. مقـوّس الظهر، شاخص العينين، أبحث بيأس عن المصباح الضّـائع...
لـمحتُ ضوءه الخافت، المتـقطّع بجانب الدّرج فركضت نحوه بكل ما تبقّى برجليّ من قـوّة..
و ما إن انتصبت و وجّهتُ الضوء ورائي حتى لمحته... أقصد لمحتها.. واقفة خلفي مُباشرة و... بيدها شظية زجاج...
* * *
أرى الآن وجهها الأخضر، المقزّز بوضوح.. و أرى يدها و هي ترتفع و...
و تـهـوي...
* * *
أطلقت صرخة مروّعـة تحمل آلام الدنيا كلها لما انغرست شظية الزجاج تلك بكتفي الأيسر...
سقط المصباح من يدي و هويت خائر القوى، وقد شلّني الألم و الرعب..
رفعت رأسي ببطء و انقبض قلبي عندما لمحت يدها رافعة شظية أخرى..
زحفت على يديّ بجنون محاولا الفرار من موت محقّق و... و انفجر حلقي بصرخة مُـدوّية و قد انغرست الشّظية الثانية بجانب ظهري...
* * *
غـلّف عينيّ سواد أعظم من سواد المكان من حولي و تثاقل جفناي..
و برعب هائل انتفضتُ لمـا فهمتُ أنّني على وشـك فقدان الوعي..
و لكن الألم كـان أقوى مني بكثير و...
و عــمّ الظلام...
....
* * *
كتل لحم و بقع دم!..
بدت الصورة أمامي ضبابية، ثم ما لبثتْ أن اتّضحت رويدا رويدا..
أين أنا بالضبط ؟.. ولماذا لم أمت بعد ؟.. كان من المفترض أن تقتلني تلك الـ... شرّ قتلة فور فقداني الوعي..
و لكن أين هي الآن ؟.. و ما هذا المكان المظلم الذي حُشرت فيه ؟.. و من أين تتسرّب هذه الرائحة النتنة ؟؟...
أدرت رأسي ببطء لأتفقّد المكان من حولي فاهتزّ جسدي فجأة من الألم لما اتكأت على مكان الطعنة في ظهري..
صدرت مني أنّة، حاولت أن أكتمها حتى لا تدري هذه الــ... (بسم الله الرحمان الرحيم) بعودتي إلى وعيي..
تحسّستُ جرحي بحذر فابتل كفي بالدّم !..
آآآه !..
بدأتْ عيناي تألفان الظلام، و ما إن أدرتهما بالمكان ثانية حتى شهقت بعنف و انقبض قلبي..
لمّا رأيت المشهد أمامي...
أجساد مُعفنة، بلا رؤوس و لا أطراف.. معلقة بحبل من وسطها إلى السّقف...
يا إلهي.. يا إله السماوات !..
لم أعد أتحمل كل هذا...
التفتُ بسرعة إلى الركن الآخر فتبيّنت بصعوبة.. كومة من الرؤوس الآدمية، المشوهة و قد رُسمت على قسماتها أعتا علامات الذعر و الهلع...
فهمتُ حقيقة ما يجري بهذا المنزل اللعين.. تذكرتها وهي تطعنني بشظايا الزجاج.. و تخيلتها و هي تجرني فاقدا للوعي على السلم إلى هذه الغرفة.. و تخيلتُ نفسي معلقا بجوار تلك الجثث.. بلا رأس.. بلا أطراف...
قفزت من مكاني، وقد استيقظتْ بدواخلي غريزة البقاء..
بحثت بلهفة عن مصباحي على أرضية الغرفة الواسعة، المظلمة.. لكن بلا جدوى..
ثم انتصبتُ بجهد جهيد على قامتي، و ما إن فعلت حتى.. دخلتْ الغرفة !..
* * *
كانت تحمل سكينا و تحركه بمرح الأطفال، و ضحكتها المتحشرجة تكاد تجعل قلبي يتوقف..
إنها تتجه نحوي، و أنا لا أبدي حركة على الإطلاق، لأنني لا أعرف ما أقوم به حتى هذه اللحظة !.. و إن لم أتصرف بسرعة ستفصل رأسي عن جسدي، حتما !..
ما زالت تتقدم بهدوء و ببراءة الأطفال !..
ركضتُ إلى ركن من الغرفة و التصقت بالحائط.. ثم رفعت يدي بسرعة لما تحسست شيئا لزجا عليه.. دققت النظر فوجدته دما !.. إن حائط الغرفة ملطخ ببقع هائلة من الدم المجمّد !..
صرختُ بأعلى الصوت...
فرأيتُ في وجهها المظلم و هو يقترب إليّ.. شيئا من السخرية و الشماتة !..
و لما اقتربتْ أكثر من اللازم، حاولت الركض إلى الباب.. و كنت قد تأخرت كثيرا !..
إذ تمكنت من التعلق برجلي بعد أن وثبتْ وثبة مخيفة.. فطُرحتُ أرضا !..
و السكين بيدها !..
* * *
و بسرعة.. صعدتْ فوق ظهري.. و قد شُلِلتُ و لم أعد أعرف كيف أحرك عضوا من أعضائي !..
لم أنتفض أو أحرك ساكنا و لم أكن لأفعل لولا أن انغرس شيء حادّ بكتفي.. و بالضبط في مكان الجرح الذي خلّفته الشظية !..
هنا لا أجد كلمة تصف حجم الألم الذي صعق جسدي !... لكم أن تتخيلوه لو استطعتم !..
ثم أيقنتُ أنني انتهيت لما بدأت تطعنني في المكان ذاته و حول كتفي مرات و مرات..
صرخت صرخات مكتومة و قد نفذت كل طاقتي تماما.. ذرفت الدموع و أنا أنظر نظرة جانبية إلى الجثث المعلقة.. ستنضاف ضحية جديدة عما قليل.. و هي الآن تُمزَّقُ لتأخذ الشكل المناسب !..
بترت ذراعي اليسرى.. في الحقيقة لم أشعر بها و هي تُجتثُّ من مكانها لأنني وصلت قبل ذلك إلى ذروة الألم !..
و لم أتأكد ذلك حتى رأيتها منتصبة و هي تحملها بيدها.. تحمل ذراعي !.. و فمها الضاحك.. يكشف على أسنان صفراء !!..
* * *
لا يهم فأنا سأموت طبعا.. لكن الغريب هو أنني لم أفقد وعيي حتى الآن !.. يا إلهي.. هل سأكون أول إنسان يشهد أطرافه و هي تبتر واحدة تلو الأخرى..
مَشَتْ ببطء إلى ركن الغرفة.. حيث الرؤوس و الأطراف.. جلستْ القرفصاء و بدأتْ تغني.. نعم تُغنّي.. و لا تسألوني ماذا كانت تقول.. فأنا لا أفهم الفرنسية !.. و لكنني أميزها على الأقل إذا سمعتها !..
* * *
تذكرتُ فجأة ابني الصغير.. حبيب قلبي (محمود) و هو يستظهر إحدى القصائد الفرنسية التي يلقنونها لهم بالمدرسة !..
ذات الصوت الطفولي المرهف و هو ينشد بكل استسلام و حب..
و هنا وقفتُ صارخا.. و لا أعرف كيف استطعتُ ذلك..
يجب أن أرى ابني.. فقد طلب مني عدم التأخر.. و سألني أن أجلب له الحلوى.. و زوجتي (السعدية)....
لا.. لن أموت هنا... لااااا..
ثم ركضتُ بلا تفكير نحو النافذة و ارتطمت بها بكل ما أوتيت من قوة.. و طار جسمي في الهواء !..