مصطلح 'الصهيونية'.. نحو صياغة تعريف بديل
وعيا بنقائص الدلالات المتداولةلمفهوم الصهيونية ثمة مساهمات فكرية عربية استهدفت تصحيح دلالة هذا المفهومالمراوغ، من أشهرها محاولة المفكر عبد الوهاب المسيري في موسوعته الشهيرة، حيث قدم?رحمه الله - تحديدا سماه "الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة" التي خلاصتهاأن:
أ- اليهود شعب عضوي منبوذ غير نافعيجب نقله خارج أوروبا ليتحول إلى شعب عضوي نافع.
ب- ينقل هذا الشعب إلى أي بقعةخارج أوروبا (استقر الرأي، في نهاية الأمر على فلسطين بسبب أهميتها الإستراتيجيةللحضارة الغربية وبسبب مقدرتها التعبوية بالنسبة للمادة البشرية المستهدفة) ليوطنفيها وليحل محل سكانها الأصليين، الذين لابد أن تتم إبادتهم أو طَرْدهم علىالأقل.
ج- يتم توظيف هذا الشعب لصالحالعالم الغربي الذي سيقوم بدعمه وضمان بقائه واستمراره.
الصهيونية كفكر مخادع
لكن هذه الصيغة لم تكن الحركةالصهيونية اليهودية قادرة على أن تفصح عنها، لأنها بذلك لم تكن لتنجح في استجاشةالشعور اليهودي وتحريكه، لذا كان لابد للقادة الصهاينة اليهود من إعادة صبغ هذهالصيغة، وتحويلها إلى خطاب قادر على خداع الفئات اليهودية المستهدفة.
وهكذا أصبحت الصيغة مهودة ومغلفة "بديباجات ومسوغات يهودية جعلت بإمكان المادة البشرية المستهدفة استبطانها.. وقدطور هرتزل الخطاب الصهيوني المراوغ الذي فتح الأبواب المغلقة أمام كل الديباجاتاليهودية المتناقضة التي غطت، بسبب كثافتها، على الصيغة الأساسية الشاملة وأخفتإطارها المادي النفعي حتى حلت، بالنسبة لأعضاء الجماعات اليهودية في الغرب، بلبالنسبة لمعظم قطاعات العالم الغربي، محل الصيغة الأساسية الشاملة.
فتحول اليهود إلى كيان مقدس له هدفوغاية ووسيلة ورسالة.. وتذهب الصيغة المُهودة إلى أن العالم هو "المنفى" وأن اليهوديشكلون "شعباً عضوياً واحداً" لابد أن يُنقَل من المنفى (فهو شعب عضوي منبوذ) إلىفلسطين "أرض الميعاد".
وبمراجعة الخطاب الفكري الصهيونينلاحظ أن كل اتجاه صهيوني يتبنى أسلوبا معينا ليصل إلى الهدف ذاته، وهو أن الشعباليهودي "شعب عضوي موحد" يعيش في شتات المنفى، وينبغي تجميعه في أرض يؤسس عليهاوطنه القومي. وهذا الهدف كان مقصدا إستراتيجيا في السياسة الأوروبية، وإن تعددتالدوافع إليه.
لكن هذا التهجير لليهود من داخلأوروبا إلى خارجها احتاج إلى آليات وديباجات ليتم بنجاح. وقد كانت آليات الانتقالوالتهجير: هي "القانون الدولي العام" متمثلاً في وعد بلفور (في الصياغة الصهيونيةالسياسية) أو "تنفيذاً للوعد الإلهي والميثاق مع الإله" (في الصياغة الدينية) أوبسبب قوة اليهود الذاتية (في الصياغة الصهيونية التصحيحية). كما أن النتيجةالنهائية واحدة وهي تحويل اليهود إلى مستوطنين صهاينة وطرد الفلسطينيين من وطنهموتحويلهم إلى مهاجرين".
وهكذا نلاحظ أن عملية نقل اليهودإلى خارج أوروبا تمت بتوظيف مختلف الوسائل، بل أدركت الحركة الصهيونية ضرورةالاستفادة حتى من الذين لا تمكنهم الهجرة إلى فلسطين.. وفي هذا السياق كان لابد منأجل فهم الحركة الصهيونية من التمييز -مع المسيري وغيره من الباحثين- بين "صهيونيةاستيطانية" انتقلت إلى الاستيطان في فلسطين، و"صهيونية توطينية" وتتجسد في صهاينةاختاروا البقاء في بلدانهم الأصلية، ولكنهم يدعمون عملية الاستيطان، أي يوطنونغيرهم.
وهذه سمة أخرى من سمات العقليةالصهيونية الميكيافيلية التي تحرص على ألا تترك أي إمكانية دون توظيف واختلاق صيغلاستيعابها.
ما هي الصهيونية؟
لكنني أرى أن "الصيغة الشاملة" التيقدمها المسيري في موسوعته، هي على أهميتها وقيمتها لا تصلح للاستعمال بوصفها تحديدامفهوميا. وذلك لافتقارها إلى وجازة التعبير التي تشترط في التعريف المفهومي.
فهي كنظرية نراها صيغة جيدةاستطاعت أن تستجمع مختلف أبعاد الظاهرة الصهيونية، ولكنها بسبب من الصيغة المنهجيةالتي قدمت بها تخرج من سياق التحديد المفاهيمي القابل للاستحضار والتداول إلى صيغةتصور أو مقالة موسعة.
لذا لابد من تقديم مفهوم بديل للصهيونية تتوافر فيه الدقة والإيجاز، مع الاقتدارعلى استحضار حقيقة الصهيونية كحركة استعمارية استيطانية، تلك الحقيقة التي تحاولالصيغة التعريفية الصهيونية أن تخفيها.
وفي هذا السياق واستثمارا للعديدمن الأبحاث نقترح التعريف التالي: "الصهيونية حركة ظهرت في القرن التاسع عشراستجابة لمشكلات أوروبية، وقد استثمرت التراث الثقافي اليهودي والدعم الأوروبيفانتهت إلى إقامة دولة عنصرية في فلسطين، مرتكزة في إقامتها لدولتها هذه على جدليةالإجلاء والتوطين، إجلاء للفلسطينيين أصحاب الأرض وتوطين اليهود بدلاعنهم".
بماذا يمتاز تعريفنا هذا عن غيرهمن التعاريف المتداولة؟.. لنحلل مقاطعه: عندما نقول إن "الصهيونية حركة ظهرت فيالقرن التاسع عشر استجابة لمشكلات أوروبية"، فتلك إشارة إلى الواقع التاريخي الذيشهدته أوروبا، حيث كان الحافز الأول عند الدول الغربية لنشر ودعم فكرة دعم وطن قوميلليهود خارج أوروبا هو "التخلص من اليهود" أولا وتوظيفهم لخدمة المصالح الاستعماريةالغربية ثانيا.
وفي هذا السياق نفهم لماذا دعانابليون الذي كان معاديا لليهود إلى تشكيل وطن خاص بهم في فلسطين. ونفهم كذلكالدافع إلى صياغة وعد بلفور، مع أن بلفور نفسه كان له موقف معادلليهود!.
ولفهم هذه الازدواجية، أي معاداةاليهود مع العمل على تمكينهم من وطن خاص بهم، نحتاج إلى استحضار الإطار الاجتماعيوالتاريخي الأوروبي.
فالغرب عاش خلال عصر الأنوار فترةصعود البرجوازية التي ستنجز تحولا مجتمعيا هائلا نتج عنه شرخ كبير في الإطارالاجتماعي والاقتصادي الأوروبي، حيث نجح التحول الاقتصادي والثقافي في أوروباالغربية وفشل في أوروبا الشرقية، الأمر الذي دفع بجماعات يهودية كبيرة إلى الهجرةمن شرق أوروبا إلى غربها.
ولم تتحمل أوروبا الغربية هذا الكمالديموغرافي اليهودي الوافد فكان لابد من العمل على تهجيره إلى الخارج وتوظيفه،انسجاما مع التقليد الاستعماري الذي اشتغلت به أوروبا في استيطان أميركا وغيرها منالمستعمرات، وهو تصدير الجماعات والفئات غير المرغوب فيها، ولم تكن فلسطين هيالمطلب الأول بل أي بقعة من الأرض، لكن مع ضعف العالم الإسلامي، ومع التخطيطلتجزئته واستعماره، ولمنع صعود قوة عربية أو إسلامية موحدة، ونظرا لقيمة فلسطينالإستراتيجية وقيمتها الرمزية للفكر الديني اليهودي، ظهرت داخل الفكر الاستعماريالإنجليزي فكرة توطين اليهود في فلسطين تحديدا لإنشاء دولة تكون عبارة عن حاجز بشريومادي يقطع جسد العالمين العربي والإسلامي في موقع مفصلي إستراتيجي يمنع توحدهوتضامَّ أجزائه.
أما قولنا "إنها حركة استثمرتالتراث الثقافي اليهودي والدعم الأوروبي" فتلك إشارة إلى أمرين غفل عنهما كثير منالتعاريف المتداولة. حيث تذهب هذه التعاريف إلى أن الصهيونية أنشأها الغرب في القرنالتاسع عشر. وهو مذهب خاطئ في تفسير نشأة الصهيونية، لأننا نعتقد أنه لابد منالتمييز في نشأتها بين ثلاثة مستويات: الصهيونية كفكرة، والصهيونية كحركة،والصهيونية كدولة.
العودة المحرمة
إن الصهيونية كحركة هي بالفعل نتاجسياسي حدث في القرن 19. بيد أن الصهيونية كفكرة موجودة في التراث الثقافي اليهودي،كحنين إلى العودة إلى فلسطين ظهر منذ السبي البابلي، وهو ما تعكسه علامات ورموزومحددات ثقافية كثيرة داخل التراث الديني اليهودي، ومن بينها المزمور 137, غير أنهذا الحنين كان مجرد فكرة انتظارية مشروطة بنزول "المسيا" (مسيح اليهود)، حيث نجدفي الفكر الديني اليهودي تحريما شديدا لهذه العودة، بل تعتبر عودة اليهود هرطقةوتعجيلا بالنهاية (بالعبرية "دحيكات هاكتس").
لذا لم يكن ممكنا للفكرة أن تتحولإلى "حركة" وإستراتيجية عملية إلا بعد حدوث تحولات فكرية داخل هذا التراث الثقافيالديني اليهودي، وهي التحولات التي تمثلها إسهامات مفكرين وحاخامات الصهيونية أمثالالقلعي وكاليشر.. الذين قاموا بتحريف فكري تجاوزوا به التحريم الديني الذي كان يحرمالعودة الجماعية لليهود إلى فلسطين، حيث يشرطها بنزول المسيح (المسيا)، الذي نظرإليه في التراث الديني اليهودي بوصفه الإذن الإلهي بانتقال اليهود جماعيا إلىفلسطين.
فقام هؤلاء الحاخامات بنقد هذهالعقلية الانتظارية والدعوة إلى ما يمكن أن نسميه استنزال المسيح، بمعنى أن عودةاليهود الجماعية إلى فلسطين ستضطر المسيح إلى النزول!!.
وإن القول إن الحركة الصهيونية هي "استثمار للتراث اليهودي" هو تأكيد لحقيقة تمكننا من تفسير ما يعجز عنه كثير منالتعاريف الأخرى التي تجعل هذه الحركة سواء كفكرة أو كحركة من إنشاء الغرب وحده. حيث إن هذه التعاريف تعجز عن الإجابة على أسئلة عديدة من قبيل: لماذا بالضبط تماختيار اليهود؟ ولماذا فلسطين؟ وهما سؤالان لا يجدان إجابتيهما إلا باستحضار التراثالثقافي والديني اليهودي.
لكن قولنا هذا لا يعني أنالصهيونية نتاج يهودي محض. بل إننا بإشارتنا إلى الدعم الأوروبي، وإشارتنا السابقةإلى كون المشكلة اليهودية مشكلة نشأت داخل المجال الأوروبي تحديدا، نؤكد أن دورالعامل الأوروبي سواء كتحول مجتمعي من الإقطاع إلى الرأسمالية أو كإرادة سياسيةاستعمارية بتوظيف الجماعات غير المرغوب فيها كأداة للاستخدام الاستعماري، هو دورأساس في تشكيل الصهيونية كحركة، واستوائها كدولة استيطانية.
جدلية الإجلاء والتوطين
وعندما نقول في التعريف إنالدولة الصهيونية المقامة في فلسطين "دولة عنصرية" وإنها "ارتكزت في قيامها علىجدلية الإجلاء والتوطين"، فإن هذا القول هو استجماع وإيضاح لحقائق عديدة تسعىالحركة الصهيونية إلى إخفائها:
أولها: الطابع العنصري والإرهابيللدولة اليهودية. وثانيها: أنها لم تأت إلى "أرض بلا شعب"، بل جاءت إلى أرض لهاأصحابها، ولذا كانت منهجيتها في الاستيطان تقوم على جدلية الإجلاء والتوطين: إجلاءالفلسطينيين ووضع اليهود موضعهم، وهو الإجلاء الذي استخدمت فيه أساليب إرهابيةمتوحشة بدءا بالحرب وانتهاء بالمذابح ضد المدنيين.
وهكذا يمكن أن نقول إن هذا التعريفالمقترح يوفر إمكانية لفهم الظاهرة الصهيونية على حقيقتها، ويستحضر مختلف أبعادها،سواء الأبعاد الثقافية أو التاريخية أو السياسية، الأمر الذي يجعل منه تعريفا دقيقايفوق غيره من التعاريف المتداولة.